ملحن يساري
ضحك المستمعون على أغاني زياد الرحباني في الثمانيات والتسعينات، وهي تحمل سخرية ومعارضة يقدر كل واحد منهم على إسقاطها على ما يشاء من واقع سياسي واجتماعي: “كذَّب عيَّاش وما بيحلف إلا بدينه! تلفن عياش وقال الأشيا مضبوطة، جوَّد عيَّاش وعارفينا مش مضبوطة”!
هي موجة تذمُّر مما حوله، مهنة احترفها قطاع واسع من مخلفات الأحزاب الشيوعية بعد تفككها وانفتاحها على شذرات المقاهي الفرنسية، “الحالة تعبانة”، “شو هالأيام” “قوم فوت نام”، تذمر من كل شيء، امتدت للتأليف (خدعة التكنلوجيا) لجاك إلول، (بؤس العالَم) بيير بورديو، لا نظرية سياسية مفهومة بقدر التذمر والعيش مثل “هيبيز” في عالَم الثقافة.
يتذمرون من كل شيء، المدارس النظامية تلك مؤسسة قمعية تشبه السجن في تحليل فوكو، إنهم ينمطوننا، يسلِّعوننا، يحولونا إلى منتج استهلاكي، الدولة الحديثة هي إله كما قال باكونين ويمكنه أن يقدم محاضرة عن كل شيء كما كان يفعل المسيري ويفلسفون أي شيء ولو كان تافهًا، فكتب المسيري في مذكراته عن تنوع ألوان شُرَّاب الأقدام، وأنه كان ذكيًا يشتري عشرة أزواج باللون نفسه فلو تلف واحد عوضه بسهولة وهكذا يكايد الرأسمالية العالمية!
تجد كتابًا من مجلد حافل للحديث عن التلفزيون وكارثة استعمال المؤسسة السلطوية له في التنميط، لا شيء سيرضيهم سوى العودة إلى المشاعية الأولى بلا نظام ولا سلطة! وهذه الحالة قد يُبتلع وجودها في لحن وأغنية، هو شخص ساخر لا مبالي كما يريد أن يبدو، ويمكنه السخرية من كل شيء، وغير ملزَم بشيء، لكنَّها حين تتحول إلى آراء سياسية تضحي سخيفة وثقيلة، تفلسف الدماء، وتحولها إلى تكلفة إنتاجية، كثير منهم هم ورثة التصفيق لملايين قضوا في السابق، وإن فقدوا الأمل بعد نشر السوفييت زمن خروتشوف فظائع عهد ستالين فاختاروا تعاطي المخدر اليساري حتى يظهروا كأنهم ليسوا مسؤولين عن شيء في العالَم! لكنهم حين يتحولون إلى محللين ومنظرين، يضحون تميم البرغوثي، بمظهر البوهيمي، لكنه لا يبالي بأي ضريبة على غيره، لا يبالي بالقمع والتسلط ما دام قال هو ضد الإمبريالية، يسب النظام لأنه نظام، لكنه منحاز إلى منظومة أشرس في التنميط والمراقبة، والقمع!