مفرطون بالتاريخ
حين بدأ البحث في تاريخ الكلام، كان ذلك قبل العصف السياسي بالمنطقة، وقد أظهر تفاعل النَّاس مع الأحداث، بالتعليقات والرأي والمناكفات مدى احتكام الناس بوعي وغالبًا بدونه إلى التاريخ، لا في جانب الهوية فحسب، بل في نمط التحليل والتفكير كذلك، أكبر من أي إقرار منهم بذلك، بل قد يكونون قد تجمَّلوا لسنوات سابقة بشعارات أوروبية حديثة، والحديث عن هايدغر، وفرويد، ونيتشه لكن ما أن تطلب الأمر منهم رأيًا أو موقفًا حتى أبدوا ما أظهرهم كأن لم يطالعوا شيئًا من ذلك البتة، ولسان حال الواحد منهم:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت***غويت وإن ترشد غزية أرشد
وهذا يشمل تيارات أعلنت لسنوات شرحها لكتب تراثية، وانتسبت لطائفة أو مذهب، ثم لم يكن لكل ما شرحوه أو قالوه من أثر فعَّال في تفسيرهم وتحليلهم وصياغة رأيهم فيما يدور حولهم، وما يثبته هذا ليس خيانة أشخاص لكلامهم السابق فقط، بقدر ما أنهم إن لم يكونوا قد التزموا بما سبق منهم، فقد انتقلوا من مقالة تاريخية إلى أخرى تاريخية كذلك، بما يظهر أنَّ المنطقة مفرطة في الاحتكام إلى التاريخ.
وتمر السنوات حتى صارت هذه هي السنة السادسة في البحث في تاريخ الكلام، بما تخللها من صعوبات بحثية جمَّة، كان تذليلها بمنهجيات البحث بمعزل عن التأثر بمحيط من المتغيرات المتسارعة، وكانت الكلمات الأولى في البدايات، ذات تأثير فيما يتلوها من فصول، ليستقر العنوان على “أصل الكلام” بما يكشف عن أنماط تفكير مسيطرة وجذورها التاريخية القديمة، منذ النشأة مرورًا بالتطور والاستقرار، وفيه من دروس التاريخ التي كلما تجاهلها الناس، أعادوا إحداث نتائجها والكلام حولها حذو القذة بالقذة بما سبق في بطن التاريخ، وما من شيء في البحث يدعوا للتسرع، إنما يحكم إيقاعه التقدم البحثي فحسب، وحتى ذلك الحين فليكثر الضجيج بخطل كبير وصواب قليل، حتى يحين انكشاف الغطاء!