الأيدلوجيات التي لا تتجاوز التنفيس!
القوميات عامل أساسي في صياغة السياسة في القرن 20، و21، لكنَّ أقوامًا أدمنوا التعالي عن الواقع يبنون تقديرات ومواقف لا تعكس سوى خيالاتهم وآمالهم فقط تلك التي لا تتحرك على الأرض، فالمشروع النووي الإيراني بدأ من أيام الشاه في 1957 سلميًا بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودخلت إيران في معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في 1970، كل هذا كان قبل ثورة الخميني 1979، فتصوير هذا المشروع على أنه ابن لفكرة ((المشروع الإسلامي العظيم)) وكأنه سيعمل بالنيابة عن ((قضايا الأمة)) ويعمل لا لردع استهداف إيران، إنما يكون تحت أوامر بعض المشايخ الذين يجعلون كلمة سر إطلاقه خدمة للقضايا ((الدينية الملحَّة!)) مجرد دعاية فارغة، تستهدف جمهورًا مراهقًا، يشترك فيها اليمين بمختلف أطيافه، بما في ذلك اليمين الذي يستهدف إيران نفسها، ويقول عن نفسه بأنَّه حامي حمى الحضارة الأوروبية من مشروع ديني متعصب، في حين كان المشروع الإيراني قوميًا وبقي كذلك.
الذي جدَّ بعدها لم يكن سرًا ولا مستغربًا، ولا هو خاص بأيدلوجية النظام الإيراني، وهو سعي إيران لتحويل المشروع السلمي لأغراض عسكرية، فهذه بديهية، فأي دولة تلك التي ستفوت الحصول على إكسير الحياة بالنسبة للدول، الشيء الذي يمنع دولتك من التعرض لمصير كثير من الأنظمة والدول التي تعرضت لدعم انقلابات داخلية كتشيلي، أو ثورات داخلية مرورًا بالغزو العسكري مهما فعلت، ولو أصدرت عنك منظمة حقوق الإنسان ألف تقرير في اليوم، ولو عارضت سياسة أكبر دولة، فلم يحدث أنَّ دولة نووية تعرضت للغزو، هذه الحقيقة الثابتة التي أملتها اعتبارات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أما الحديث عن القانون الدولي، والاتفاقيات دون وزن مماثل لهذا فهي اعتبارات شكلية، تخاض كنقاشات ثقافية لا سياسية.
وفي سبيل ذلك رأت إيران توسيع نفوذها خوفًا من الحصار المطبق حولها، من القواعد الأمريكية التي تلتف حولها كالثعبان، والتي كانت كثيفة بعد حرب الخليج الثانية، فدعمت من تستطيع دعمه ما دام يخدم الهدف الاستراتيجي لها، وهو تطويق وإشغال كل ما يمكنه التعرُّض لمشروعها الذي دفعت في سبيله الغالي والنفيس.
ويتعامل بعض الناس معها بعتب كأنه يخاطب صديقه الصدوق، لا دولة لها مصالحها واعتباراتها القومية، بأنَّها لم تدخل في دفاع مشترك معه، وهو الذي حالفها، مع أنَّ صيغة (التحالف) من كيسه، فمن الذي قال له إنَّها في يوم من الأيام كانت ملزمة بدفاع مشترك مع أي قضية أو جماعة؟ يذكر الأمر بما قاله بوتين حين قال بأنَّ الأمريكان عرضوا على غورباتشوف وقف سباق التسلّح، وحينها التزمت روسيا لكنَّ أمريكا لم تفعل، فقال له المستضيف الأمريكي أعطني ورقة تنص على هذه المعاهدة، فقال له بوتين: أحسنت! ضحكتم علينا حينها، قلتم شفهيًا، ولكن لا يوجد أي توقيع أو أوراق، فمن يعاتبها اليوم عليه أن يتمتع بروح بوتين السياسية حين قال: هنيئًا لكم ضحكتم علينا، سيما وهو لا يمثل دولة إنما هي جماعات يمكن للدول أن تتملص من أي التزام اتجاهها في أي وقت.
وقد تدفع إيران ثمن سوء إدارتها في ضبط عناصر الطوق الذي صنعته لتحصين برنامجها لربما وهذا شأنها، لكنَّ الأخ المتعالي عن كل واقع، يحلل الأمر كأنَّ القضية نقاش بين (ابن المطهر) وبين (ابن تيمية) كأنه صراع معتقدات، لا قوميات ومصالح استراتيجية، ويزيد المسألة عبثًا الانهماك في الحكم الفقهي، والمفاضلة، كأنه يقود حاملة طائرات، وما يحجبه عن استعمالها إنما هو موقف شرعي، مع أنَّه لا وزن له في المسألة اليوم، فرح أو كره، عارض أو وافق، إنما هي أيدلوجيا تسعى للتنفيس، ولا يظهر أنَّ لديه فهمًا لواقع السياسة، كتصوره أنَّه يجب أن ينحاز للنظام الإيراني لطبيعة هذا النظام باعتباره ((إسلاميًا)) وفق تصوراته، هو يعلم بأنه لن يخوض مصيرًا مشتركًا مع دولة تتعرض للقصف ليمنع لبس البكيني فيها! ولكنه بانتهازية يسمي كلماته وقوفًا إلى جانب طرف، في عالم سياسي لا وزن فيه للكلمات بل للمؤسسات والكيانات القائمة.