التعرية الذاتية

في الأزمات ينكشف المخزون السابق، فكريًا، وثقافيًا، وسياسيًا، وبعد اجتياح التتر لبغداد في القرن السَّابع، شهدت المنطقة انبعاثًا نقديًا كبيرًا شكل مخزون المنطقة الفكري للقرون التالية، حيث إنَّ أغلب الأعمال المعاصرة تعيش فكريًا وثقافيًا على أعمال القرن الثامن والتاسع هجريًا، ابن تيمية، المزي، الذهبي، ابن القيم، ابن رجب، السبكي، ابن كثير، ابن حجر العسقلاني وغيرهم.

وكان التشخيص حاضرًا في تلك الكتابات، فرأى ابن تيمية أنَّ الخلل المتراكم في العقائد سبَّب تلك المقتلة، حين أدى إلى الضعف، مرورًا بالخيانة، والخطوط العامة عملت على الخروج عن العباءة الغنوصية التي بلغت حينها مبلغ الاستسلام للواقع، والعيش في جبرية وخرافة وتسليم وتأملية معقدة، إلى تلمس أسباب المعرفة الموصلة لتجنب الكارثة السابقة بمنع تكرارها، سواء في نبش ما تراكم في كتب العقائد، إلى الحديث، والفقه، وامتدت تلك النقدية إلى ابن حجر أحد من نقدوا الصوفية والذهبي وغيرهما.

ومع تسارع الأحداث تعرَّت نخب، بما تمثله من مخزون ثقافي هزيل، تلك النخب التي كانت هيئتها توحي لمتابعيها بالرزانة والحكمة والعمق، فإذا عقولها أخفُّ من ذلك الذي جاء إلى الأعمش (١٤٨هـ) وقد كان رجلًا نبيلًا كبير اللحية فسأله عن مسألة خفيفة في الصَّلاة، فالتفت إليه الأعمش وقال: انظروا إليه! لحيته تحتمل حفظ أربعة آلاف حديث، ومسألته مسألة صبيان الكُتّاب!

وهكذا الحال اليوم في الشأن العام، والتصور السياسي، والتحليل الفكري، فما يدار إن هو إلا حصيلة ما تراكم من قرون لا تكاد تجد نبشًا فيها بعد ما حصل في بغداد عند اجتياح التتار، وتضمنت مراجعات كبيرة في القرنين التاليين، إنَّ ذلك التحرك الفكري كان له تأثير كبير لقرون بعدها، وإن لم يكن بالضرورة ذا تأثير آني في زمنه، والظروف تتكرر، مع تعقيد وتحديات إضافية، لإعادة النظر فيما تراكم من سرديات ومقررات تحكمت في وعي الناس وشكَّلت أنماط تفكيرهم.