لماذا لم يقل عبد النَّاصر ما تحدَّثَ به في السِّر علنًا؟
تكرَّر هذا السؤال كثيرًا في منشورات تعلِّق على التَّسجيل الصَّوتي للحوار الذي دار بينه وبين القذافي، كيفَ ضحك على الجماهير طويلًا فأسمعهم ما يحبُّون، ولا يكادون يذكرونه إلا بشعارات معاداة الإمبريالية، والمطالبة بالتَّحرر والكفاح، لكنه في حوار خاص مع زعيم آخر يقول غير ما قاله للجماهير، إنَّ من يُلقي هذا التعليق يُلمحُ إلى أنَّه قد أضحى ناضجًا كفاية ومنفتحًا على النقاشات السِّياسية، إنه (مواطن) يراه حقًا للمواطنين فهو في مصير مشترك في البلاد، لهم أن يعرفوا إلى أين يذهبون في الحرب والسِّلم والاتفاقات، ذلك زمن سحيق! واللوم في وجهة نظر هذا المعلِّق يتوجه إلى سياسي حصرًا فهو منفرد احتكر الفضاء السِّياسي! فالنخبة-لله درُّها-رفعت من مستواها بل من مستوى الجماهير التي تستمع إليها، فتطوَّرت وأضحت ترى غرابة الدبلوماسية السِّرية القديمة تلك! وتنفِرُ عن احتكار الحديث في الشَّأن العام وصناعته والقرار فيه، فالجماهير لا مشكلة لديها البتة في سماع ما يدور حولها، بل لديها حق اسمه: حق الوصول إلى المعلومات والعياذ بالله!
رغم أنَّ السُّؤال الأوجه: ما الذي تغيَّر؟ أليس الطَّرب العام الذي ساهمت فيه (النخبة) يكمن في أنها لا تريد سماع سوى أنَّ الأمور تمام، ونحن في تقدُّم، والأعداء في ترنُّح وانخذال؟ أليستَ (النخبة) هي مَن تضفي كلَّ حين قدسيَّة على الصُّراخ وبحِّ الحناجر في الخطاب السياسي؟ حتى لو كان بجوار المتحدِّث ألف مايكروفون؟ لتعلِّق الأشعار والنثر والأهازيج والغناء متى ذُكر للهيجاء وصف؟ رغم أنَّه خيار سياسي لا غير ذلك، يجب تقييمه، وإخضاعه للمعلومات الدقيقة، والتحليل العلمي السَّليم، مع إمكان النقد والمساءلة، لو قدِّر أنَّ ما أذيع عما كانَ قبلَ خمسين عامًا قد أذيع اليوم في أوكرانيا لتسجيل حديث لرئيسهم يقول فيه ما لا يقوله في العلَن، لأمكن أن تستمع مثل هذا الاعتراض، إذ لا مشكلة في الإعلام الغربي أن تصارح الأوكرانيين في كلِّ دقيقة: إنَّ هجومكم المضاد فشل، هناك أزمة في التجنيد، هناك أزمة على المدى البعيد، والحلفاء يصارحون بشكل سافر: زيلنسكي عزيزي لن يدخل أحدٌ معك في حرب مع روسيا النووية، لكنَّ من يوصفون بالنُّخبة-والمقصود بهذا اجتماعيًا لا معرفيًا على التحقيق-هم من يعزِّزون جعل السِّياسي في مصارحة مكشوفة مخصصةً مع الإعلام الغربي، أما في الإعلام العربي الدَّاخلي فيدفعونه دفعًا إلى القول بأنه لِرَيبِ الدَّهرِ لا يتضعضعُ، حتى يملأوا القاعة بالتصفيق ووسائل التواصل بالغزل، وإن كان يخطب فيهم من خرابة!