ما الذي يجعل قطاعات هادئة، روتينية، تمضي عقودًا في الوظيفة، أو هم عمال، فلاحون، أو إنهم عاطلون عن العمل يعتاشون على مساعدات الحكومة، أو صدقات جمعيات مدنية، لمَ يصبحون الجمهور الأعظم لأفلام الجريمة المنظمة، وحكايات التمرد الثوري، والمغامرات؟

إنها شريحة تنتشر بينها عوامل مثل التعويض النفسي لعجزها وضعفها الواقعي، لا يستطيع أن يقول لا لرب عمله، لكنه يتابع فيلمًا عن اغتيال الرئيس! إنهم يخوضون متابعة آمنة، كأنهم مع البطل في سيارته وسط زخات الرَّصاص، بعض الشركات تمنحك سماع أزير تلك الطلقات وهي تمر من جانبك، قد تعرضها ثلاثية الأبعاد والمتابعون في أسرَّتهم، يعلمون أنهم ليسوا طرفًا فيما يشاهدونه حتى لو التفت البطل إلى الجمهور من محبِّيه وقال: هيا بربِّك، قم وافعلها مع رب عملك سيضحك! لقد كان نصًا مشاكسًا مليئًا بالتمرد، لكنه لا يدفعه سوى للمزيد من الفُشار في سهرته.

ومهما كانت النهاية لا يوجد ما يصنعه، فقد تلقينا جرعة هائلة من الإثارة، والتعويض النفسي، وكسر الروتين اليومي، كيف لا وقد أضحى خارجًا عن القانون في بلده لساعتين أو ثلاثة وهو يذخِّر حلمه قبل النوم، ولعله أضحى زعيمًا للمافيا لعدة ساعات وهو يتخيل نفسه مكان كورليوني، أو ميكا، ولن يزعجه مقتل جون ديلينجر، فقد منحه قصة جيدة يتحدث بها إلى زملائه عن صموده الأسطوري، فلم تستطع FBI إمساكه.

وعلى هذه الصِّفة تتحول قضايا سياسية إلى منتج إعلامي في زمن وسائل التواصل، بما فيه من تعويض نفسي بأن تتابع أخبار منظمة سرية، لكنه يعلم بأنه لن يشترك في واحدة منها في حياته، بل هو مواطن صالح تمامًا! حتى لو سمع عشرات البيانات التي تخاطبه، إنه نصٌّ جيد، يمكن وصفه بالمشاكسة كنص من فيلم جوكر! لكنه لا يتعامل مع ما يتابعه ويؤيده بمنطق سياسي يأخذ فيه ويرد، بل هو منتج إعلامي، أي شي يناقشه بلغة سياسية تدَخُّل لمقاطعة استمرار العرض! إنه قد يحرق مجريات الفيلم، هو ليس طرفًا فيها وليس لديه أي تخوف من نهاية الفيلم فلنتابع بصمت أيها البغيض! ثم مهما كانت النهاية قد يصدر موسم آخر في وقت آخر أو بلد آخر.

هو ما يدفع إلى تحويل القضايا السياسية إلى نزعة إعلامية فقط، تجلب المشاهدات متى زاد المعلِّق من إثارة الجمهور، فهو حينها جزء من صناعة الدراما مثلما يصنعه المعلق الرِّياضي في جمهور منتخب وهو يصرخ كلما اقترب المهاجم من مرمى الفريق المقابل، ما بين دموع وحماسة وفرحة عارمة قد تصل إلى الحلويات، لا علاقة لهذا بالعقل السِّياسي، فلم قد يهتم بصياغة تصوُّر، بدل التركيز على المشاعر ركيزة الدراما؟ بين وصف لقطات فجرت فيه الأدرينالين، أو بعثت على الاشمئزاز أو الرُّعب في أخرى، ثم مواصلة يومه كالمعتاد خارج المسلسل الذي فاق الإنتاج التركي في عدد حلقاته.