القرن العشرين هو قرن الثورات والأيدلوجيا، روسيا، الصين، كوبا، فيتنام، الكونجو، بوليفيا وغيرها من المناطق التي دخلت في تجارب اندمجت في الثقافة المعاصرة، ولكن بعد سنوات لا يزال كثيرون ممن يتحدث في السياسة يخالفون أبسط المفاهيم التي كُتبت في تلك المرحلة، ويكون هناك استغلال للجهل في تصوير المعلومة، وأوضح مثال على ذلك ما تسمعه كلَّ حين عما يسمى بحروب الغوَّار/العصابات.
فهذا المفهوم حديث، وأكثر من صقله وكتب فيه هم الشيوعيون، ولا بد من تصحيح الكثير من المعلومات المغلوطة التي لا يمكن إلا أن توصف إلا بالهراء، مثل نظرية تكلم مرة عنها أحدُ المشاهير وهي مجرد أحلام طفولية، مثل اعتباره أنَّ هزيمة 67 بسبب مركزية الدولة، بخلاف الحروب العصابية فهي تختلف ويرى فيها بديلًا عن الجيوش النظامية.
فالحروب العصابية لا يمكن أن تسدَّ مسد الجيوش النظامية أبدًا، وتعترف بضعفها حتى إنَّ بعض منظريها يسميها حروب المستضعفين، فالجيوش النظامية احترافية لا تقارن بكفاءة المليشيات: وهي تجمعات شبه عسكرية فليس هذا الوصف ازدرائيًا بل هو وصف لذلك التجمع غير النظامي، فلا يمكن للمقاتل العصابي أن يفوق من حيث المهنية والكفاءة الجيش النظامي المدرب، ويتلقى تسليحه بشكل قانوني، فهو تابع لكيان سياسي معترف به وهو الدولة، بخلاف التجمعات التي تسلك سبيل الحروب العصابية.
فعندما تستمع إلى (سياسي) يقول بأنَّ مقاتليه العصابيين أفضل تجهيزًا من الجيش النظامي فهو كاذب، بل العصابي يعمل على نظرية: أقل احترافية/في مهمات مختلفة، ومعنى هذا أنَّ الجيش النظامي عنده محترفون لكنَّ الجندي فيه يعمل وظيفة واحدة درسها وتدرب عليها، فيعمل العصابي على النقيض منه بأقل احترافية لكن في عدة مهمات، وملخص الاستراتيجية العصابية: أنها طريق يُسلك عند فقدان الجيوش النظامية، أو انهيارها، أو عدم قدرتها على المواجهة المباشرة، فتعتمد على استراتيجية بعناصر أساسية، ومن أهمها ما يوصف بلعبة البرغوث والقط، ومعنى هذا أنَّ البرغوث يتغذى على دم القط، لكنه لا يدخل في أي مواجهة مباشرة وإلا سيموت.
أما الدم الذي يقتات عليه البرغوث في هذه الحالة فهو اعتماده على عتاد الجيش النظامي ولذا تحرص أن تكون مثل عتاده، مثلًا في الثمانينات اشترت الولايات المتحدة الأمريكية أسلحة سوفيتية من مصر ووزعتها على المقاتلين في أفغانستان، لسببين: التذخير الموحد مع الجيش النظامي السوفيتي، وتأخير كشف الدعم الأمريكي لتلك الحركات، في حين كانت فيتنام مثلًا تعتمد على الدعم السوفيتي والصيني، وبهذا أمكن أن يكون عتادها تابعًا للداعم اللوجستي لها.
هذا المفهوم نصت عليه الكتب التي سلك أصحابها هذا المسلك: مثل كتاب جيفارا، وماو تسي تونغ، وفي سبيل الحفاظ على حياة البرغوث فإنَّ المقاتلين العصابيين لا يدخلون في مواجهة مباشرة، ولا يدافعون عن منطقة، ولذلك تتطلب المرحلة الأولى الأطول كما يقسمونها تنقلًا واسعًا وعدم انحصارهم في منطقة، فلعبت الطبيعة الجغرافية في فيتنام دورًا كبيرًا في هذا، فضلًا عن الكثافة السكانية، مثلًا أفغانستان: عدد سكانها 50 مليون في التقديرات التي ترجع إلى الثمانينات، وتحدها 7 دول منفرطة الحدود معها، وتتمتع بطبيعة جغرافية تسمح بالاختباء والاحتماء.
وحرب العصابات تعمل على نظرة طويلة جدًا مثلًا 90 سنة حتى تستطيع إنهاك خصومها، وقد تؤتي ثمارها قبل ذلك لكنها الاستراتيجية العامة التي تعمل عليها، وما دامت لا تستطيع المواصلة عبر مدة زمنية طويلة فإنها ببساطة ليست صالحة للاستعمال، لأن فكرة الإنهاك غير موجودة، ما دامت تعمل وفق دفقات متباعدة، أو أعمال منفصلة.
وهناك أسطورة تقول بأنه لم يستطع أي جيش نظامي التغلب على حرب عصابات، وهذه كاذبة فهي كأي عمل يمكن أن ينجح ويمكن ألا ينجح تبعًا للسلوك المتبع، وقدرتها على التعلم من الأخطاء، ومثال واضح على هذا حركة (إيتا) الانفصالية فشلت وحلَّت نفسها، وغيرها من الحركات التي قمعت وفي الوقت نفسه فإنَّ الجيوش النظامية تدرس مختلف الاستراتيجيات العصابية التي اتبعت في القرن العشرين.