ما يزرع في السِّلم يُقطف في الحروب
المجتمعات التي تمتلك نظامًا سياسيًا فعَّالًا يحقق النمو في مختلف المجالات هي التي لها وزن على صعيد السِّياسة، تلك المجتمعات التي تعمل على امتلاكها نظامًا تعليميًا متطورًا هي التي تنتج مواطنين يستطيعون أن يدلو بآرائهم، أما (الأخ الصغير) الذي يظن نفسه معفى خلال 70 سنة وأنَّه لا يريد (تنظيرًا) كأنه منهمك في ورش المفاعلات في بلاده، ويحسب أنَّه يمكن أن يقدم شيئًا ذا بال ساعة اختبار كل ما راكمته الدولة وقت الامتحان، إنه يتجاهل حقيقة قاطعة بأنه لا يمكنك التعالي عن الواقع نفسه بمجرد أنك قررت فجأة ألا تعترف به.
حين يتم تضييع 40 أو 50 سنة في كلام المقاهي على أساس أنه (العلم)، بالحديث عن الأولياء الطائرين وحلقات مطربة للجماهير هذا يعني أنَّ المخزون الفعلي لمجتمعات كاملة ودول هو تضييع جيلين في (الهراء)، وهؤلاء لا يمكنهم أن يصنعوا أي شيء ذا بال ساعة الجد، سوى أضحكني وأغضبني، ساعة تنافس اقتصاد يستطيع التحمل، وتقنية تستطيع التحرك، وتحالفات حقيقية تثبت جدارتها، ساعة اختبار نظام سياسي في بلد يمكنه أن يحتوي الأطياف السِّياسية المختلفة، وآخر يخشى من أي هزة تحوله إلى حرب أهلية طاحنة، بما يشبه تمامًا حالة ذلك الذي ما أن يسمع رأيًا سياسيًا مخالفًا حتى يرتعد وكأنَّ الكفر قد نزل بساحته، وطيلة 20 سنة لا يفكر ذلك (الأخ) بالشأن العام ولا أعدَّ نفسه، ولا تعب في قراءة، ثم يظنُّ أنَّه يصنع شيئًا حين يخرج غريزة التوحش الكامنة في خيالاته على صيغة تحليلات وتهديدات كأنه على رأس حاملة طائرات لا في وسيلة تواصل فقط، تكتب كلمات فقط لا تخرج غير ذلك، إنَّ حصيلة خبرته تحتاج إلى حذف، ثم إعادة بناء لكنه يحسبها صالحة للاستنجاد بها في صياغة رأي!
قديمًا كان هناك فيلسوف ألماني يُدعى فويرباخ أعلن إلحاده وهاجم الكنيسة، فقام عليه الرأي العام، فرد عليهم بحجة معقولة وقال بأنَّ أوروبا ملحدة عمليًا، لا تحترم الكنائس طيلة السنة، ولا تمثُّل المسيحية لها سوى شيئ من الماضي لكنَّ الرأي العام في زمنه كان يتحرَّج من الاعتراف بهذا فقط! وهو شبيه بحالة (الأخ) الذي يعلم بضعفه وأنه لا وزن له في صنع سياسة شارعه، وبلده فضلًا عن شيء متعلق بما وراء ذلك، لكنَّه النفاق الاجتماعي الذي يفرض التمثيل في وسائل التواصل، فلان شجاع يرسل رسالته عبر فيسبوك وهذه المرة إلى ترامب رأسًا ألم تروا ماذا قال له: اخسأ لن تعلو قدرك! كأنَّ أحدًا يلقي له بالًا، وكلما زاد في حدته بما لا يقوله رئيس الصين أو روسيا كان بذلك (ينتصر) لموقف! مع أنها حالة من الجنون والتصنع ليس غير ذلك.
وطريقة عرض القضايا أضحت بالمقلوب، شخص يقول لمَ لا تتكلم عن سياسة الولايات المتحدة، لم لا تتكلم عن ربيبتها؟ كأنَّه مواطن محسوبٌ عليها، يؤمل فيها خيرًا أن تصغي لصوته، وهي طريقة التعليم القديمة، التي لا تزال حية في القلوب، لا تتكلم في ناصر بل اشتم الإمبريالية، حتى لو أدت سياساته إلى كارثة كبرى، إياك والحديث في سياسة صدام بل الولايات المتحدة هي السبب في كل شيء ألم يفبركوا قصة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، كأنه في محكمة يبيع فيها مرافعات قضائية، وفيها طرفان وهو في المنتصف! يا عزيزي إن كان همُّك الإدانة الأخلاقية وفضح الانحياز العالمي وكلَّما وسعت الدائرة برأت الأقرب يمكنك حينها شتم الحداثة وعندها يصبح العالم من القرن السادس عشر هو سبب المشكلات، ويتفرق الدم بين القبائل، فلتكتب رسائلك بلغات غير العربية، وقتها وظيفتك استقطاب من ليسوا جزءًا من الأمر، أما عربيًا فأنت لا تناقش سؤال الحق كما يفترض، بل أسئلة السياسة، وإلا درت في البديهيات لا تزيد شيئًا في ذكرها.
وفي عالم السياسة لا يهم من هو المحق، فعمليًا كانت الدول القوية قد توسعت طيلة التاريخ حتى لو لم تكن صاحبة حق، والدول الضعيفة تآكلت حتى لو كانت بيدها كل بينات الدنيا، ولا تقوى الدول بتقوية حججها وقناعاتها فقط فهذا جزء صغير يتعلق بسؤال الهوية، وبعدها تأتي السياسة بما هو على أرض الواقع، ولما نتحدث عن الواقع نتحدث عن الدول في المقام الأول فهي الكيانات السياسية، هي المؤسسات، لا أفراد لا ينتظمون في شيء، يجمعهم منشورات فقط، ولو قدِّر وجودهم في منطقة منكوبة فهو لا يعني سوى أنهم سينافسون على حصص الخبز التي توزع على الفقراء، لا أنَّهم سيحدثون أدنى تأثير.