فلنطلق بودكاست!
لم تنهض أمة في العالَم إلا بالكتب، فما قبل الكتابة يختلف عما بعدها، فالأمم تصنع فكرًا متوارثًا بالبحوث الجادَّة والكتب، ومن ميزة الكتاب الجادِّ أنه يصعب تلخيصه، فلا تستطيع أن تختزله بمنشورات، وسيبقى يحتفظ بقيمته من الجلدة إلى الأخرى.
تلك هي قيمة أُمَّات الكتب، ومظان المعرفة، ولن يستطيع أي منشور أن يختزل قيمة الكتب التي صنعت منظومة فكرية، وفارقًا معرفيًا، ولا يعني هذا التقليل من أهمية المقالات، ولا تقزيم دورها لكنَّ لها مجالًا لا ينافس الكتب، والبحوث.
وقد تحول نوعًا ما في السبعينات والثمانيات معنى المثقف إلى الروائي والشاعر، وهو ما يمكن وصفه بالانحطاط المعرفي والثقافي، فللشعر والرواية مجالها، لكنها عُممت، حتى صارت مرادفة لكلمة ثقافة بين العديد من الكتاب، وصار الشعراء والروائيون يخدعون أنفسهم حين يظنون أنهم عقل المجتمع وأمين أفكاره.
حتى جاءت مرحلة المقاطع القصيرة والطويلة، وأغرقت الساحة بلقاءات كثيفة لا تحصِّل من ورائها معرفة، ولا تقريبًا للمعرفة، بقدر ما نقلت معنى المقهى والحانة إلى الإنترنت! نعم يمكن أن تستمع إلى لقاء مع باحث متخصص أمضى حياته في الكتب والبحوث ليطلعنا على تجربته، بعد أن عرفه الجمهور بكتبه وأفكاره السَّابقة على طلَّته البهيِّة.
لكن أن تجد من يقفز إلى عقد الندوات المطولة، والحديث المسهب، ويتنقل من بودكاست لآخر، ثم يحدثك أنَّ لديه مشروعًا فكريًا وثقافيًا! ووقته الذي يمضيه في ابتساماته وتلخيص نشرات الأخبار في لقاءاته كان يمكنه فيه أن يستثمره في تكوينه المعرفي ثم إنتاجه، فهذا لا يمكن أن يوضع سوى في سياق التسويق والإثارة، والإغراق فيه شكل من أشكال الانحطاط المعرفي والثقافي لا نشرًا لها! فالخلاصة: إنَّ الباحث ليس [يوتيوبر]، ولا ينقصنا شيء بقدر الباحثين، لا المقدِّمين والمتنافسين على المشاهدات على يوتيوب.