النهضة الأوروبية تميزت بتنخيل تاريخهم، درسوه من مختلف تفاصيله بزوايا متعددة، وهو ما منحهم أرضية تأكيدات جديدة، وتفنيد ادعاءات كثيرة، وقدرة على التفسير، وبهذا تحول التاريخ إلى دراسة منفصلة عن ادعاءات الكنيسة، وصار سهلًا على الباحثين معرفة حتى مصادر ادعاءات الكنيسة، كالثالوث الذي لم يكن سوى تحوير لفلسفة أفلوطين، وقدموا دراسات كبيرة عنه، وهو الذي لم يعرف اسمه في التراث العربي تاريخيًا، بل نحلت بعض كتبه إلى أرسطو مثل كتاب أثولوجيا.

هذه المعرفة هي التي منعت من الارتكاس وتضييع منجزاتهم في مختلف الجوانب، سيما في الجانب المعرفي بما يخص الهوية كالدين، والتاريخ، في حين كان التحديث في المنطقة العربية يرتكز على بعض القطاعات التعليمية فقط، والباقي تحديثه شكلي، سيما ما يخص الفرق والمذاهب والتاريخ، أي ما يمس الهوية، والمقصود بالتحديث المناهج العلمية التي يمكنها أن تكشف، تثبت وتفند، وتعطي تفسيرًا للماضي الذي هو الطريق إلى الحاضر.

يمكن للأوروبي أن يعرف تفاصيل هائلة عن ماضيه، عن الإغريق والقرون الوسطى، عن الخلافات الكنسية، عن باسمارك ونابليون، يستطيع معرفة حقائق التاريخ التي تخالف السرديات الدعائية، كادعاءات العديد من السياسيين، في حين كانت شعارات العلمنة في المنطقة العربية شكلية، وأبقت تحتها مشاكل كبرى كالطائفية، لأنها لم تود البحث بما يزعج أحدًا، بل قد تستفيد انتهازيًا من الوضع القائم على الجهل، والنزعات المناطقية والقبائلية، ومن رحم أنظمة كانت ادعاءاتها كبرى في العلم والبحث، كانت تخرج أشد الادعاءات الخرافية، من أطباء ومهندسين، بقي درسهم التاريخي حبيس قرون سالفة دون مبضع بحث أو تحقيق، وهو ما أثَّر على نظرتهم إلى الهوية فضلًا عن الفكر السياسي الذي تأسس عليها.