التبعية المتجذرة

لا يمكن فصل الجانب السياسي عن الثقافة الحية في المجتمعات، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي كان صامويل هنتنجتون قد بشر بانهيار الفلسفات السياسية الكونية، لصالح الرؤى القومية، وبتعبيره كان الماركسي الروسي قديمًا يريد من الأوروبي الالتحاق بنموذجه الاقتصادي الاشتراكي حتى يشاركه فيه، لكن في عصر القوميات يريد مصالحه فقط.

إذ صار انبعاث الجانب القومي هو المعتاد في هذا الوقت، وفي المنطقة العربية تصارع دفاعًا عن مصالحها قومية فارسية، وقومية تركية، وتم تحويل اليهودية هي الأخرى من ديانة إلى قومية، هناك تأسيس لقومية كردية، وفي مناطق أخرى أمازيغية، تتحرك في منطقة بلا أي مشروع قومي عربي، ولا حتى في الشق الثقافي بين الشعوب، مع اختزال القومية بالتجارب التي قدِّمت في القرن العشرين، والتي بنيت على نسخ باهتة تأسست على الأفكار اليمينية الأوروبية، دون جذور ثقافية لها من المنطقة، وصار رفض النماذج الغربية مرادفًا لرفض (العلمانية) وهو بالتالي ملازم لرفض (القومية).

وعبر تاريخ طويل من العمل (الثقافي) تم ترميم دعائي للتاريخ التركي في المنطقة العربية، وكانت الجماعات التي تولت الثقافة بل إعداد المناهج التعليمية في العديد من الجامعات العربية لا تنظر إلى المنطقة العربية بعد انهيار (خلافة آل عثمان) إلا بنظرة الإدانة لمختلف نزعات الاستقلال، أو محاولات التنظير القومي، وهو ما أسس لمفهوم بديل عن القومية لصالح الديانة، فمهما يكن من قوميات في المنطقة فإنَّ الطرف المقابل يعرف نفسه على أنه (إسلامي) فحسب.

ولا تجد مثل هذا في إيران رغم أنها عرفت نفسها (إسلامية) لكنَّ الجانب القومي بقي عاملًا أساسيًا ومكونًا من مكونات خطاب الخميني الذي يصرح باعتماده على “المؤمنين الفرس” هذا قبل استلام الحكم كما في كتابه (كشف الأسرار)، في المقابل لا تزال القومية التركية نشطة وحية في الشعب، إن غياب النزعة القومية يكشف عن تبعية متجذرة، لا في صعيد السياسة التي قد تكون مرحلية أحيانًا، لكن حتى على صعيد المعتقد وطريقة التفكير.