الدوَّامة

هكذا كان عنوان رواية لسارتر عبَّرت عن أزمة أصابت الأحزاب الشيوعية الثورية في القرن الماضي، حين تفاءل كثيرون بخلاصهم من ماضٍ قديم، تمثلت سياسيًا في القيصرية الروسية ١٩١٧ لتعود الدوامة باسم آخر، والقيصر باسم آخر، المحاكم الثورية، الشرعية الثورية المطلقة التي لا يُعرف أين يمكن أن يصل تطهيرها الثوري، دفعت سارتر إلى اليأس.

رواية الدَّوامة تشبه العود الأبدي لدى نيتشه، وقد استعار الفكرة أحد الرَّسامين السوداويين فرسم مجموعة تُسقط تمثالًا وتنصب آخر كأنَّ التماثيل نصبت على رحى طاحونة، ما أن يسقط واحد حتى يخرج آخر، ضريبة لفكرة (الخلاص) كما في التصوُّر الكنسي، ما أن تؤمن بشيء حتى تتخلص من أوزارك وتحوز دخول الملكوت.

لكنَّ الواقع لا يعترف بهذا الاختزال العاطفي، بل كل منظومة تحليلية وتنظيرية مهما تعقَّدت، فإنَّ مهمتها شرح العالَم وفهمه، أصابت أو أخطأت، أما تلوين العالم بريشة عاطفية فهو دأب الشعراء والفنانين الذين لا يمكنهم أن يسدُّوا مكان علم السياسة، أو الاجتماع، أو ما هو أدق مثل الفيزياء.

تطل رواية الدوَّامة حين تشاهد امتعاضًا من طغيانٍ في (جمهورية) لكنَّ الآمال تتعلَّق بزعيم حاز على (بيعة)! حتى تكون الاعتراضات على تجاوز الصلاحيات الدستورية، لتهتف الجموع لإسقاط الدساتير جميعًا! فكرة الجمهورية نفسها قامت على أنَّ رأس الدولة ليس هو (ولي أمر) ليس هو الأدرى بمصالح الناس بالضرورة وتمنح له سلطة على هذا الأساس.

لذلك قيُّدت سلطاته برقابة أخرى يشارك في تقييمها خبراء في مجالات مختلفة، لكن ما أن تُعاد صياغة المسألة بعقلية الثقة والطاعة، حتى يعود سؤال الدوامة الأول: هل وجد طغيان ما في العالَم إلا بتجمع السلطة بيد فرد ومجموعته؟ ماذا يتبقى حينها للشعب الذي صار من (موضة) العصر تعريفه على أنه مجموعة مواطنين، سوى أن (يثقوا).

فكرة الثقة تعني أنه ليس هناك أي آلية ضبط، مراجعة، مساءلة، هو زعيم تقي، ويغفل هؤلاء زيادة الإيمان ونقصانه، في التجارة اليوم لا تكاد تجد مكانًا كبيرًا (للثقة) التي تحتل منصبًا هائلًا في التصورات السياسية القديمة، بقدر الرقابة والأرقام، ماذا يمنع الزعيم من استغلال الثقة، لا ما يمكن أن يدفعه إليه إيمانه لو التزم بتقواه في أحسن الأحوال، تبقى رواية سارتر نفحة أدبية نقدية يائسة، تتحدث عن أوروبا فقط!