اليسار العبثي
هناك قوم يعوِّضون هزال شخصياتهم، امتهانهم اليومي، بجمل ثورية فجة، لا تتفق مع الوقائع ولا الأحداث، ودومًا وأبدًا فإنَّ أي (ثورة) بالمعنى الحرفي لها، لا تقاس بقدرة الحناجر على إطلاق صيحاتها، بل بوضوح الرؤية وإمكان التحقيق الواقعي، لا الإمكان الذهني المجرد، اليسار العبثي ليس حزبًا معينًا فقط، بل خط فكري، لا ينظر إلى الأحداث بحس المسؤولية، ذلك الذي يطلق شعاراته في كل زمان ومكان، ولا يهمني هنا التعرُّض لمدى مساهمته هو في تطبيق تلك الشعارات.
وتتكرر الأحداث دون قراءة واعية، ويختفي من المشهد أولئك الذين لوَّحوا بسيوف الكرتون، ويبقى الذين يتجرعون النتائج، في 1917 كان هناك تيار بعد نجاح الثورة الروسية بإسقاط آل روماوف، يقول بأنَّ عليهم الدخول في مواجهة مع ألمانيا، إذ كانت روسيا جزء من قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فالجبهة مستعرة من ألمانيا في ذلك الوقت، وحين كانوا يسألون ما الذي تريدونه؟ يقولون إنهم يريدون الحرب ضد ألمانيا، حتى ولو كان ذلك بانتفاضات شعبية يخوضها الفلاحون في روسيا.
حينها اعترض لينين، وقال بأنَّ الحرب تحتاج إلى جيش منظم واقتصاد قوي، والجيش الروسي أنهكته الحرب، والجوع أخذ بالروس حتى ثاروا، وأنَّ الوقت لصالح ألمانيا، وأنه كلما مر أكثر زاد سقف الألمان في شروطهم لانسحاب روسيا من الحرب، حين يتقدمون سيفرضون أمرًا واقعًا، فكان هؤلاء اليساريون يصيحون بأنَّ إخوانهم في ألمانيا، ورفاق دربهم سيثورون، وحينها يستطيعون هزيمة ألمانيا، فيجيب لينين: بأنَّ تلك الثورة لو حدثت لن تضيره بل هي في صالحه، لكن لن يضعها كعامل سياسي بوجود أمل بثورتهم التي لم تتحقق، بحجة الجملة الثورية بأن (الشعوب تغلي) وأنَّ ثورة ستحدث في ألمانيا، ففي الحروب تدرس أسوأ الاحتمالات لا أفضلها، وبحق لم تحدث ثورة ناجحة في ألمانيا ووقع السوفييت اتفاقية بريست 1918 وخسرت فيها روسيا 34٪ من سكانها، و 54٪ من أراضيها الصناعية، و 89٪ من حقول الفحم، و 26٪ من السكك الحديدية.
هذه الحادثة لا يذكرها اليسار اليوم وهو يقول بأن 20 مليون إنسان سقطوا في الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ولكنه انتصر، صحيح هذا ولكن هذا جاء بعد أن أخذوا مهلة وطوروا روسيا وشملوا بهذا شعوب الاتحاد السوفيتي فكان انتصارهم على ألمانيا انتصار أكبر دولة من حيث المساحة، لم يخوضوها سنة 1917، لكن حين خاضوها في وقت مناسب كانوا قد رفعوا رايتهم في نصف برلين رغم التكلفة البشرية الهائلة.