حينما دخل التحديث إلى المنطقة العربية، دخل في موضوعات محددة، مثل الطب والهندسة، وبقيت أهم الجوانب التي تحدد الهوية، وطرق التفكير، والتاريخ، والتفكير السياسي، بعيدة عن المساس، خارج السياق، ولم يكن مطلوبًا أن تتحول هذه المناطق إلى منجزات أوروبية، فهي مهمة أبناء الحضارة نفسها ليحدِثوا تجديدهم فيها، ولن ينجز هذه المهمة عنهم أحد.
لذا خرج المهندس الذي يتعامل في الهندسة باحتراف، لكن ما أن يصل إلى الهوية، والتاريخ والتفكير السياسي حتى يفكِّر كرجل لم يخرج عن تصورات (الرعية) عند سقوط حكم آل عثمان، ففي الشخص الواحد اجتمع الفصام الذي يمنعه أن يكون قديمًا، وكذلك يمنعه أن يكون حديثًا.
إنَّ تلك الجوانب التي أهملت هي التي تشكِّل قلب التصورات، والانتماء، والولاء، هي التي تحتاج إلى طرق علمي جاد، للتخلُّص من رواسب أعاقت الناس عن النهوض، ونسف سرديات تعاقب على رسمها قرون من السلطة لا البحث عن الحقائق، ثم فلسفتها حيث تصاغ التصورات بطريقة مختلفة عن كل ما أدى إلى الكوارث والأغلاط التي يرتقي العديد منها إلى جرائم بحق أجيال، لذا لا بد من طرق هذا المجال علميًا، يتبعثر فيه كسل ومحافظة المؤسسات الرسمية التي سعت لتحاكي كليات الطب والهندسة بالألقاب والسنوات الجامعية، دون مضمون جديد يزيد على ما كان يدرَّس من قبل في العهد التركي، وستبقى الفلسفة لهذا ثأرًا مؤجلًا لا يعرف خطورته أولئك الذين ينهمكون في معاركهم الضيقة الصغيرة.