كل يوم يجدد دينًا!
بقي الخليفي على المماحكة في قضية هشام بن عمار، وهو الذي سجَّل كل مرة اعتذارًا على أصل مختلف، ففي السَّابق كان يجادل في الإجماع على عدم الرواية عن كافر، [واحتج لذلك برأي من يحكم فيه بأنه جهمي ولم يصب حتى في نقله!] ثم أقر أنهم في القرون الأولى كانوا يشددون في الرواية، ثم قال لا يوجد في الرِّواية عن هؤلاء الذين ينصر كفرهم شيء يخالف [الإجماع] لأنهم كفروا أو ضلوا بعدما كبروا، وهكذا صار يراعي أصل الاتفاق على أنهم لو حكموا بكفر الراوي ما رووا عنه حال كفره عندهم!
ورجع الكلام إلى هشام بن عمار (٢٤٥هـ) فهو يقول بأنَّ المسائل التي وقع فيها متأخرة، بعدما كبر، على أن هشامًا معمِّر فقد ولد سنة [١٥٣هـ] فيكون عمره عند محنة المأمون ٦٥ سنة! ويزعم أنه لم يروِ عنه أحد حين وقع فيما أنكر عليه أحمد، وهذا ابتكار لاعتذار عن نفسه، ويظهر أنه لا يبحث نصرة للحق، بل يعتذر عن نفسه فحسب، فلا أصل متين يحتكم إليه، وإنما يهوّش في البحث، فلو قرأ ترجمته كاملة واستحضر ما فيها ما تفوه بهذا.
فقد رماه أحمد بالتجهم لمسائل، ومنها تسميته لحديث تعلق الرحم بالرحمن كفرًا، وهي التي أغضى الخليفي عنها، ثم صار يوجه كلام هشام (تجلى لخلقه بخلقه) على طريقة الذهبي، وهو الذي يرفض توجيه الذهبي لكلام الكرابيسي لكلام أحمد فيه، فظهر أنَّ الرجل يتخير من الأقوال بما يلائم هواه وغرضه، وكان كل تعويله على رواية لم تصح وعلى طريقته (كذب) فادعى أنها من كتاب الرد على اللفظية ليعقوب الهروي، على أنَّ الذهبي ما قال هذا ولا هو أبان دليلًا واحدًا على ذلك، وكنت قد قلت هب أنه خرج من مسألة اللفظ فأين باقي المسائل؟ ومنها كلامه في حديث الرحم الذي قال يخشى على قارئه الكفر! فقال أحمد فيه: (جهمي) فلم يأتِ بجواب سوى ادعاء أنَّ هذا متأخر من هشام.
على أنَّ أحمد روى في المسند عن علي بن المديني [٢٣٤هـ] وعلق ابنه عبد الله: “ولم يحدّث أبي عنه بعد المحنة بشيء” وقد بدأ امتحان خلق القرآن بأمر المأمون سنة [٢١٨هـ] فعلم أنَّ أحمد لم يروِ عنه إلا قبل هذا في المسند، وفي المسند لم يرو أحمد عن هشام بن عمار رغم أنه جمعه قبل المحنة! فإن كان من ترجيح فهذا يرجِّح أنَّ كلامه فيه قديم وموقفه منه أثر عليه في المسند.
ومع ذلك كان ابن معين (٢٣٣هـ) يوثق هشامًا ويروى عنه، وممن روى عنه ابن ماجه (٢٠٩-٢٧٣هـ) روى عنه في سننه، على أنَّ ابن ماجه حين امتحن المأمون بخلق القرآن ٢١٨ هـ كان عمره ٩ سنوات، وهو من قزوين، ثم ارتحل إلى بغداد والشام وسمع هشام بن عمار، فأي ترجيح يكون في تاريخ سماعه من هشام؟ أنه روى عنه بعد المحنة، فعلى هذا كان لأحمد موقف من هشام قبل المحنة، وهناك من روى عن هشام بعد المحنة.
بل في ترجمة هشام، (لما توفي ابن ذكوان سنة اثنتين وأربعين، اجتمع الناس على إمامة هشام بن عمار في القراءة والنقل، وتوفي بعده بثلاث سنين) فها هم يجتمعون على هشام آخر حياته وهو الذي مات سنة (٢٤٥هـ) فظهر أنَّ الخليفي يدّعي ولا يتوقف عن الدعاوى! انتصارًا منه لنفسه يخترع قواعد وتواريخ وأحداثًا من رأسه، في ذاتية منفصلة عن الوقائع والأدلة يجدد كل حين لنفسه دينًا كما جاء عن ابن جبير في ذر المرجئ.