التخليط لا التحقيق
العديد ممن يسمعون عن الهروي الانصاري (481هـ) يظنون أنه كان يتكلم في الآثار فحسب، وأنه كما زعم الخليفي بعيد عن كتب الكلام، رغم أن كلام الرجل مستغلق، مليء بالاصطلاحات، ويتعامل مع التصوف بطريقة فلسفية، ومن ذلك قوله:
“انفصال عن الاتصال وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق، فإنَّ الانفصال والاتصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم، في العلة سيان”.
فما لهذا ولطريقة سفيان، والقطان، وأحمد ونحوهم؟ ولكنّه الاستكثار بمن يخدم الغرض، ويسلّم ابن القيم بأن ابن تيمية أعلم منه في جوانب البحث النظرية، فأين ابن القيم من ابن تيمية في جوانب العقليات، والفلسفة، والكلام، بل أغلب كلامه فيها مستل من ابن تيمية، فلما تعرّض ابن تيمية لكلام الهروي الأنصاري، صاحب كتاب منازل السائرين، قال بصراحة هو من جنس كلام النصارى في المسيح، ولا يتعامل معه المتلاعبون بجدية، فمن ذلك يهونون كلامه بأنه من أهل الحلول الخاص، ويصير كلامهم هذا ليس وحدة وجود، على أنَّ النصارى من أهل الحلول الخاص في المسيح فحسب.
نأتي لكلام ابن القيم، فابن القيم سعى للاعتذار عن الهروي فتكلف في التأويل له، وذكر الاحتمالات في كلامه، ثم يختار الأبعد عن الإدانة في شأن وحدة الوجود، رغم ذلك كان ينكر عليه، ويشير أحيانًا إلى أن الظاهر من كلامه منكر، مثاله:
*قول الهروي: “صفاء الاتصال: يدرج حظ العبودية في حق الربوبية”. فقال ابن القيم: “في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له.
*قول الهروي: “الانفصال عن الكونين بانفصال نظرك إليهما”. فقال ابن القيم: “هذه العبارة التي ذكرها الشيخ في بادئ الرأي لا تخلو من إنكار حتى يتبين معناها والمراد بها”.
*قال الهروي: “تلبيس الحق سبحانه بالكون على أهل التفرقة”. فقال ابن القيم: “أما اللفظ فتسميته فعل الله الذي هو حق… تلبيسًا فمعاذ الله، ثم معاذ الله من هذه التسمية، ومعاذ الله من الرضى بها والإقرار عليها، والذب عنها، والانتصار لها، ونحن نشهد بالله أن هذا التلبيس على شيخ الإسلام [أي الهروي].
*قول الهروي: “تلبيس أهل التمكين على العالم، ترحمًا عليهم بملابسة الأسباب.. وهذه درجة الأنبياء” قال ابن القيم: “مما ينكر لفظه وإطلاقه غاية الإنكار، ويجب على أهل الإيمان محو هذا اللفظ القبيح وإطلاقه في حق الإنبياء”، وهذا يظهر شيئًا من طريقة الهروي، وفيه ما أنكره عليه ابن القيم مثل تسمية الشرع تلبسيًا، وإطلاق هذا على الأنبياء، ومع ذلك كل هذا يمر عندهم مرور الكرام.
فإن قارن باحث بين كلام ابن القيم الذي أقر باستغلاق بعض المواضع عليه في الكتاب، وأظهر مسلكه بأنه يختار الأبعد عن الإدانة، وطريقة ابن تيمية التي حرص فيها على شرح نصوص الهروي نفسه، لوجد أن ابن تيمية كان هو الأدق في مسلكه، فكل نص يحتمل، ويختار الأقرب إلى السياق، ونسق المتكلم، لا الأبعد عن الإدانة فحسب كما سلكه ابن القيم، فما سلكه الهروي ليس أجنبيًا منفردًا عما انتشر بين المتصوفة في زمنه، ومرد ذلك إلى كتاب تاسوعات أفلوطين، من حيث الأصل، أما ما قاله الهروي في إثبات الصفات، فكل هذا إنما هو في توحيد العامة، ومثل هذا لا ينازع فيه ابن رشد ولا ابن سينا، فللعامة التخييل، ولخاصة الخاصة الحقائق، ففطن ابن تيمية لهذا، ولم يعارض ما أثبته الهروي في منزلة، بما يقوله في منزلة أخرى، فالحق ما قرره ابن تيمية في قراءته عن الهروي.
ويبقى مسلك ابن القيم منكسًا للراية التي رفعتها تلك الطائفة المهوشة في العلم حيث قبلت ما أثبته عليه ابن القيم من تسميته شرع الله وإطلاقاته في حق الأنبياء بالتلبيس، ومع ذلك يمررونها دون أي إشكال، ويضحي سلفيًا من كان يصف الأنبياء بتلك الألفاظ، ولا يجدون غضاضة في وصفه بشيخ الإسلام مع كل هذا، وهذا يظهر أنهم لا يحققون ولا يبحثون، إنما يستكثرون، ولكم أن تتخيلوا أن الخليفي كان يسطو على كتابات المدخلي شيخه، في سيد قطب، لعبارات محتملة فيقول هذا وحدة وجود، رغم وجود مواضع أخرى يرفض فيها قطب وحدة الوجود صراحة، هذا وسيد قطب لم يكن متخصصًا في التصوف ولا عباراته، ولا كتب فيه بخصوصه، أما الهروي الذي كتب منازل السائرين، وعباراته هي الأصرح في المسألة، صار يقول ابن القيم برأه من وحدة الوجود، أو كأن الأمر متكافئ بين من أثبتها عليه ومن نفاها عنه، فإن قبلت هذا المسلك فبكر أبو زيد برأ سيد قطب من هذا، لكنه الهوى.