في معوقات النِّقاش السِّياسي

في هذه المنطقة من البحث تَظهر مُعَوِّقات النقاش السِّياسي كونها تمنعُ التفريع عنها إليه، فهي أمرٌ متعلّقٌ بالمتلقي، والمحلِّل عفو الخاطر في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي أثبت حتى الآن أنَّ ما رُفعَ مطلبًا في بداية القرن العشرين من إلغاء الدبلوماسية السِّرِّية، بحُجَّة ضرورة الرقابة الشَّعبية، وعدم انفراد قلِّة في الاطلاع السِّياسي، لا يزال بعيدًا عن الواقع العربي المعاصر في القرن الواحد والعشرين.

لذا تبقى قاعدة الأقليَّة المُطلِعة هي سيِّدة الموقف حتى الآن، أما الأغلبية فدورها ينحصر في التجاوب مع التلاعب الدِّعائي وتداوله أو الدوران في فلك خطاب دعائي مضاد، وكم يسبق سقوط المباني في الحروب، سقوط النخب المتصدِّرة في التعليق عليها، فمما يمنع النقاش السياسي:

١-عدم التفريق بين الشَّرعية والجدوى، إذ يتحول الحديث عن الجدوى خرقًا لمسألة الشرعية، رغم البون بينهما، على أنَّ التوحيد بين الموقفين يصادر أيَّ رأي قد يكون فيه مصلحة عامة، وحينما تكون هذه الفكرة موجودة عند من يُصنَّفون معارَضة، يُعلم بأنَّ تلك التجمعات تردد ما لا تفقهه، ولا تزال تستعمل الأدوات السُّلطوية نفسها.

٢-مصادرة الحق في نقاش القرارات السِّياسية، ومن أخصها الحرب والسِّلم، تثبت إفلاس ما سمي يومًا بالمعارضة، وأنها لا تحمل فكرًا يتجاوز عقلية الانفراد التام، بل يعتقدون هذا الحق في وجه من يعارضونه، لكنهم يسحبونه دفاعًا عمن يوالونه، وهذا يثبت النزعة الانتهازية المستشرية فيهم.

٣-عدم ربط أيِّ خطوة سياسية سلمًا وحربًا بالنتائج المترتبة عليها، ترفع النقاش رأسًا كما قال ابن رشد الحفيد: (من رفع الأسباب، فقد رفع العقل).

٤-تحديد وظائف الخطوات السِّياسية مهم جدًا حتى لا يجري التلاعب اللفظي والدعائي، فتخاض الحروب لسحق العدو، لا لكي يتعاطف أحدٌ معها، ولا لكي تضحي سيرة أهلها على كلِّ لسان، فهذه وظيفة السِّينما لا الحرب.

٥-الحروب الحديثة لا تعبأ بالأصوات المقيّمة للقرارات السِّياسية، بخلاف الدِّعاية التي تصوِّر الأمر على غير هذا لقطع لسان كل مخالف لها، فالحال اليوم بخلاف الحروب الأولى التي لعب فيها المعتقد دورًا هائلًا، وكان من يكفر بدينه ويؤمن بدين الآخر يضمن لنفسه استثناءً حربيًا، بخلاف الحروب الحديثة القائمة على سياسات قومية أو وطنية، فعمليات الإجلاء، أو التطهير، لا تعبأ بآراء أصحابها السِّياسية، فقد تحددت هوية أصحابها إلى الأبد، إلا لاستثناءات نفعية صِرفة.

٦-في ساعة الأزمات تظهر نتائج الإعداد للامتحان، ليس على الأرض فحسب، بل في طرق التحليل والتفكير، فمن اجتهد في آخر ١٠ سنوات في الانهماك بالعمل اليومي، أو تعاطي الكتب الرديئة، يصعب عليه أن يدلي بشيء مفيد في الشأن العام، وليس من مسؤولية أحد أن يمحو له أمِّيته في وقت قصير لا يحتمل هذا.

٧-الأصوات الأعلى، والتي تظهر تزمتًا مفرطًا سياسيًا، وتعصّبًا في وجه أي اختلاف معها لا تزكي نفسها بالضرورة، إذ غالبًا ما يكون برنامجها اليومي لا يختلف في شيء عن برنامج أولئك الذين يتهمونهم بكل تهمة، وإثبات الولاء لا يحتاج إلى الغباء في التصريحات السياسية.

٨-تكمن أهمية الآراء السياسية في مقاربتها للموضوعية في شأن المصلحة العامة وفقًا للظروف والموازين الحالية، وليس في التعبير عن الرغبات والأحقاد الداخلية، السِّياسة ليست حصة تعبير عن المشاعر، بل هي مسؤولية، وليست نزعة فردية.

٩-تكمن أهمية الآراء السياسية في مدى إمكان تحققها على الأرض وتحقيقها النتائج المرجوة منها، أما التصريحات غير القابلة للتحقق فسهلة ولكنها في عالم اللا ممكن، أي بعيدًا عن السياسة.

١٠-يعتقد بعض الناس بما أنه قدم تضحيات سابقة أنَّ آراءه أكثر دقة، وهذا غير صحيح، فلما يكون قد سبق إلى تجارب فاشلة فهو أبعد عن إسداء النصيحة لغيره، بل عليه مراجعة تجربته الذاتية.