قبل 56 عامًا حرص كاتب على رصد الثغرات في الوعي العربي، لكن بحمد الله! تم تجاوز ذلك الزمن، فكم هو بعيد! يقرب من60 عامًا، فيه تسابقت النخب، وكثرت الكتب، حتى بات يمكن إخراج الفرق بين ما شاع بين الأجداد، وما آلت إليه الأمور فيما بعد! فكتب عن طرق التفكير في 1967، وهو الذي أصدر كتابه في 1968:
“ليس بالإمكان مقارنة حال التعبئة العاطفية، التفاؤلية، والحماسة الهائلة، والنشوة الانتصارية العارمة التي سادت العالم العربي”، “القدرة العربية كان محرمًا التشكيك بها”، “العرب دخلوا الحرب وعقلية الفروسية في القتال لا تزال تسيطر على عقولهم، وردود أفعالهم، وليس أدل على ذلك من العبارات والأفكار والأحكام والقيم التي سمعناها في إذاعاتنا والتي ترددت على صحفنا وأقوالنا، حول: صليل السيوف… والمفاهيم الفردية العشائرية لمعاني الشجاعة، والاستبسال، والشرف، والحمية، والغدر، والدناءة، والمواجهة المباشرة في القتال، هذه هي العوامل والقيم التي لا تزال تحرك مشاعر العربي، وتلهب خياله، بالرغم أنه حارب في معركة لا مواجهة فيها، ولا فروسية ولا مبارزة…في هذا النوع من الحروب لا تلعب الشجاعة البسالة والحمية بمعانيها التقليدية إلا دورًا محدودًا، وصغيرًا”.
“نحن نعلم كيف تصرف المواطن العربي في المدن عشية حرب حزيران، حين شعر بإمكان حدوث نقص في بعض البضائع، والمواد الغذائية المعروضة في السوق”، “مقاييسنا لما هو معقول وطبيعي، لا تزال ذاتية وهمية، غير موضوعية وغير علمية”، بعد الخامس من حزيران في مجلاتنا وصحفنا، وخاصة بعض الصحف البيروتية الصراخ المستمر…: انتهكت الأعراض، وخرقت حرمة المساجد، وسرقت تاجًا ثمينًا من على رأس العذراء، وأنها اعتقلت، ونفت، وقمعت، ونكلت كل هذا في محاولة لتغطية الموقف العربي الحرج بشتم العدو"، “هل كنا نتوقع تصرفًا أفضل وأحسن” “أم إننا مستعدون للاحتفال، والتهليل، والتكبير، عندما يبدو النصر وشيكًا، وغير قادرين على تحمل العواقب المتوقعة للحرب في حالة الخسارة؟”.
“لا يجدينا نفعًا اليوم أن نلوم الغير بكل هذه العصبية…لا تلام الذئاب إن تصرفت تصرف الذئاب، بل يلام من كان يفترض به أن يحمي الأرض من هجمات الذئاب”، “قول العميد الركن: انتصارنا عليها محتم منطقيًا وتاريخيًا…ينطوي على أخطار، أهمها التهرب من المسؤولية عما حدث… الاستنتاج بأنَّ الواقع العربي سليم في جوهره لأنه لم يكن مسؤولًا عما حدث في الخامس من حزيران، المسؤول عنه هو الاستعمار مثلًا، ولذلك لا يضير العرب أن يستمر على ذات النهج الذي كانوا سائرين عليه لأن الأمور بطبيعتها، والأحداث التاريخية بمجراها الحتمي سوف تؤدي في النهاية إلى الانتصار”.
“حالة من الإنكار البائس، والهروب اللا مسؤول، واللا معقول قد سيطرت فورًا… ومن المفارقات المذهلة على حالة الإنكار المذكورة قيام أحد أبرز قادة حركة القوميين العرب في لبنان يومها، محسن إبراهيم، وأحد أهم المنظرين للناصرية، والمدافعين عن الخط الناصري في العالم العربي بنشر مقال في مجلة الحرية، الصادرة في بيروت فورًا بعد الهزيمة يحمل عنوانًا يفسر نفسه بنفسه: كلا! لم يخطئ عبد الناصر، ولم يهزم العرب (14/6/1967)”
“أما في دمشق، فقد كان الشعار المتداول بكثافة هائلة رسميًا وشعبيًا، قبل الهزيمة بأيام: (لن يمروا) وبقي الشعار ذاته متداولًا لفترة مديدة بعد أن مروا”، “في القاهرة ظهرت مريم العذراء فجأة في كنيسة تحمل اسمها في ضاحية الزيتون، وتحول الظهور إلى حالة هستيرية بفعل تبني أجهزة الإعلام المصرية له، وعلى رأسها صحيفة الأهرام الرصينة، وترويجها المثير لمعناه العجائبي النافي للهزيمة”.
(صادق جلال العظم، النقد الذاتي، 1968).