المواقف على حساب المعرفة
جرّب أن تطالع مقررات الفرق والكلام في أي مؤسسة تعليمية في المنطقة، ستجد أنَّ الأمر محاججة متعالية على التاريخ، وسردهم التاريخي أقرب ما يكون إلى القصة الأدبية منه إلى التأريخ، ويحق للمؤلف أن يسرد حينها ما يشاء وفاء للحبكة الدرامية الخاصة، فلا إجابات عن تحرير المقالة، وظروف نشأتها، والباعث عليها، بل لا ارتباط بين المقالات، كأن المعتزلة كانوا في الصين، غير مرتبطين بنسق فكري واجتماعي معين، يطورون مقالاتهم وفق (أفقه) ولا غيرها من الفرق، ولا تواصل بينهم ولا تأثير متبادل.
فضلًا عن التدخل كلما سنحت الفرصة لسيل من التفخيم، أو الهجاء، رغم أنَّ كل هذا مبني على وصف غير دقيق للمقالات وظروفها، الشيء نفسه ينسحب على ما سمي بـ(تاريخ التشريع) حبكة جميلة تفصل الأمر برمته عن تتبع ظروفه، لتحوله إلى تراكم علمي فوق التاريخ بإجابات اعتباطية لا تفسر قرب منظومة واعتماد السلطة عليها في القضاء والفتيا دون غيرها، ولا انتشار فقه في منطقة دون أخرى سوى بالأجوبة المستهلكة عن طبيعة العمران والجغرافيا، فلا تفسر لم انتقل فقه مالك مثلًا الذي اعتمدوا في تحليله على ابن خلدون دون أدنى تطوير، لم انتقل إلى الاندلس؟ أبجامع نقص العمران، والجو الصحراوي الذي قالوه في المدينة!
هذه المؤسسات التي قالت كلمتها، بميزانيتها الضخمة، وعمرها المديد، وتلقفها من بعدها أقوام صاروا يدَرّسونها كما هي لا تزال تستعمل عقلية ونفسية العصر العباسي التعليمي، لا يُتوقع أن يقدَّموا شيئًا في هذا المجال، باستثناء تحقيق مخطوط يفيد غيرهم، ومن تابعهم ليس في خاطره ما يعكّر عليه جلسات الطرف التي يعقدها، ويستمر في شرحها على طريقته (رحلة من الشباب إلى الهرم) دون إضافة أو تحرير.