قراءة نقدية في كتاب «التنبيهات العقلية على آراء ابن تيمية المنطقية – دراسة نقدية لكتاب الرد على المنطقيين» لأيمن عبد الخالق المصري

قبل البدء لا بد من التنبيه على أمرين:

الأول: الدافع الحقيقي لكتابة هذه المراجعة ليس الدفاع عن ابن تيمية، بل هو دفاع عن العلم الحديث، نقد المنطق القديم مثله مثل نقد علوم الطبيعة القديمة التي عفا عنها الزمن، النزعة الرجعية لهذا المؤلف (بل لعامة المدافعين عن المنطق القديم، كما ظهر ذلك في النقد على أحدهم [١]) لا تخفى، وأكبر شهادة على ذلك هو ما خطه الناقد في عين هذا الكتاب: فمن المفترض أن أيمن المصري طبيب، إلا أنه ينكر أن التفكير محله الدماغ [٢]! لعل المنطق الآرسطي أنساه ما تعلمه في طب الأعصاب والطب النفسي! تريد أن تعلم الناس المنطق؟ لا مشكلة، تعلَّم المنطق الرياضي الحديث ثم علمه للناس! تريد أن تعلم الناس الطب؟ لا مشكلة، ولكن علمهم الطب الحديث ولا تتغنى بنظرية الأخلاط ونظرية الوبالة! أما إذا ما كنت مصرا على تعليمهم المنطق القديم فليكن الأمر دراسة تاريخية، لا تزعم أن هذا المنطق هو القسطاس المستقيم العاصم عن الزلل! كما لو كنت ستفعل بخصوص نظريات أبقراط وجالينوس (أرجو ذلك!).

الثاني: أعترف أن هذا الكتاب من الصعب نقده؛ لا لتماسك وصلابة محتواه، بل لأن المؤلف لم يتعاطى مع النقد التيمي بصورة جدية؛ فهو يشرح المنطق القديم ثم عندما يأتي على نقودات ابن تيمية يكتفي في غالب الأحيان بالإحالة إلى شرحه، جاعلا مقدمات المنطق القديم ضروريات لا ينازع فيها عاقل! فابن تيمية في نظره لم يفهم المنطق فهما صحيحا ليتمكن من نقده، وللمرإ أن يتعجب: إن كان واقع ابن تيمية بهذه الصورة فلماذا ينتقده المؤلف؟ برأيي، عندما لا يفهم ناقد ما ينتقد، أكتفي بشرح المنقود شرحا صحيحا بحيث يتبين غلط الناقد، لا داعي لأن أكتب كتابا أرد فيه عليه! ومما زاد من صعوبة نقد هذا الكتاب هو عدم وجود أرضية مشتركة بيني وبين المؤلف؛ فهو وإن كان يعيش ببدنه في القرن الواحد والعشرين إلا أن عقله حبيس القرون الوسطى!

فلنبدأ الآن في نقد محتوى الكتاب:

١. تصورات المؤلف عن تاريخ المنطق وتطوره ودخوله العالم الإسلامي مبنية بشكل أساسي على سردية سامي النشار، نعم سامي النشار نفسه الذي يظن أن ابن تيمية اطلع على نقودات السفسطائية والرواقية للمنطق دون أن يذكر دليلا واحدا على هذا [٣]. لا يتوقف أيمن هنا، فيرتضي المؤلف مسلك النشار ويدعي ادعاءات غريبة: كزعمه أن ابن تيمية تأثر بأنيسيديموس [٤] ومانون [٥]! فعلى فرض التسليم بأن ابن تيمية سفسطائي وأن حججه الشكوكية تشابه حجج أنيسيديموس ومانون، فما الدليل الذي ارتكز عليه المؤلف في إثباته تأثر ابن تيمية بهؤلاء؟ لا شيء!! أهذا نتاج المنهج البرهاني الذي يتغنى به المؤلف؟

٢. على أن الفرض بأن ابن تيمية سفسطائي فرض خاطئ، ودليل على سوء تصور المؤلف للمذهب التيمي، فيتوهم مثلا أن هناك تعارض بين اعتراف ابن تيمية بوجود بديهيات أولية ودعواه أن البديهي عند زيد قد يكون نظريا عند عمرو [٦]. ولا تعارض عند التحقيق، فالكل ينطلق من بديهيات أولية هي أساس البناء النظري، ولكن لا يلزم من ذلك أن البديهيات التي أنطلق منها هي عينها التي ينطلق منها غيري؛ فقد تكون هي عند غيري أمرا نظريا، وقد تكون أمورا ظنية أو حتى مرفوضة. ولا يعني هذا أن صدق القضية في ذاتها أو كذبها أمر نسبي (كما توهم الناقد [٧])؛ بل النسبي هو إذا ما كانت بدهية أم نظرية، ومدى وثوقنا وإيماننا بها (قطعي، ظني، شكي، وهمي…)، وكيفية حصولها لنا (حس، نظر عقلي، خبر). وعلى سوء الفهم هذا فقِس!

٤. على أن الأمر لا يتوقف هنا، فالمؤلف وصل إلى نتيجة مفادها أن إيمان ابن تيمية وتدينه كان بالعرض والإتفاق؛ “لنشوئه بالصدفة في مجتمع متدين مفعم بالمشهورات والمقبولات الدينية السمعية التقليدية، ولو نشأ في بيئة غير دينية لكان له وضع آخر مختلف تماما” [٨]. ولنا أن نتسائل كيف أتى المؤلف بهذه النتيجة؟ وكيف علم بحال إيمان ابن تيمية؟ أبمراعاته المنطق البالي؟ وهل لو نشأ الرازي أو ابن سينا أو الناقد نفسه في اليونان لكانوا مسلمين؟ إن تأثير البيئة الاجتماعية على معتقدات الشخص أمر مفروغ منه، فلا خصوصية لابن تيمية على غيره! هل هذا هو نتاج منهج المؤلف «البرهاني» أم أنها مجرد محاولة منه لاستثارة الحمية الدينية عند القارئ، الأمر نفسه الذي عابه على ابن تيمية مرارا في كتابه هذا؟!

٥. إن المؤلف يراهن كثيرا على سذاجة القراء، فيرى أن هناك تناقضا بين موقف ابن تيمية في «الرد على المنطقيين» وكتاباته السابقة على المنطق، ففي «الرد» يبطل ابن تيمية كثيرا من القواعد المنطقية في حين أنه يقرر صحتها في أحد فتوايه [٩]، وقد تجاهل أيمن مقدمة «الرد» التي نقلها مرتين [١٠]! والتي فيها: “فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ولكن [[كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من