حول المناظرة (5)
ولنأتِ بتطبيق لطريقة ابن شمس، فهل يرضاها أو يرضاها أتباعه متى كانت عليه؟ فمن أواخر ما قام بنشره في قناته (حكم الموسيقى والغناء) وهذا المقطع شاهد الكلام، قال:
(عن قتادة) وكررها، ووصفه بأنه أحد (التابعين)، واحتج به.
ماذا لو قال لك معترض: قتادة (117هـ) من رؤوس القدرية وهو كذلك، قال عبد الله بن شوذب (156هـ): “سمعت قتادة يصيح بالقدر في مسجد البصرة صياحًا” [1] “وكان طاووس إذا أتاه قتادة ليسأله يفر منه، لمقالته في القدر” [2]، وسئل أحمد [بن حنبل] عن قتادة؟ فلم يصرّح، ولكنه يذهب إلى أنه كان يرى القدَر، [3]. وقد وصفت القدرية في المناظرة بالحرف: (مجوس هذه الأمة، لأنهم أثبتوا خالقين، خالق للخير وخالق للشر)، فلمَ تزكي قتادة ولا تحذّر منه؟ بل لمَ تحتج به؟
فإن قال وفق ما ذكره في المناظرة: لأنه لم يمش على قواعد المتكلمين!
قيل له: هذا ليس بضابط، لأن قواعد المتكلمين إنما اتسقت عبر تاريخ طويل، وأوائل كل فرقة لم يكونوا بذلك الاتساق عند المتأخرين، وهو شأن كل مقالة، فعلى كلامك أنت تعذر الرؤوس ولا تعذر أتباعهم لأن أتباعهم أضحوا متقنين للكلام فحسب، ثم إنك تخالف ما نقلته عن أحمد (241هـ) واحتججت به، إذ نقلت عنه أنه رمى محدّثًا بالتجهم، وقلت لم يسأله عما ألَّف من الكتب، فيقال: ولا سأله عما أتقنه من أبواب الكلام! وهل مشى على أصولهم في كل الصفات أم في بعضها.
ولم ينته الشاهد، فقد قلت فيه من الأدلة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) رواه البخاري، وابن حبّان في صحيحه.
الاثنان (البخاري، وابن حبان) يرويانه بهذا الإسناد:
“هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر….”
لاحظ: هشام بن عمار (254هـ)، فلننقل عن [السلف]!
قال “أبو طالب، سمعت أبا عبد الله يُسأل عن حديث هشام بن عمار، أنه قرئ عليه حديث: تجيء الرحم يوم القيامة فتتعلق بالرحمن، فقال: أخاف أن تكونَ كفرت! فقال: هذا شامي ما له ولهذا!؟” [4]
فها هو هشام يقول عن حديث إنه يخشى على قائله من الكفر، فاستشنع منه أحمد هذا، ولم تتوقف الحكاية.
قال المروذي: “ورد علينا كتاب من دمشق: سل لنا أبا عبد اللَّه، فإنَّ هشامًا قال: لفظ جبريل عليه السلام ومحمد صلى اللَّه عليه وسلم بالقرآن مخلوق، فسألتُ أبا عبد اللَّه؛ فقال: أعرفه طياشًا، لم يجترئ الكرابيسي أن يذكر جبريل ولا محمدًا، هذا قد تجهم” [5].
“وفي الكتاب أنه قال في خطبته، الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه، فسألت أبا عبد الله، فقال: هذا جهمى، الله تجلى للجبال، يقول هو: تجلى لخلقه بخلقه، إن صلوا خلفه فليعيدوا الصلاة” [6].
هنا يقال: الرواية مبنية على عدالة الراوي والثقة به، فأنت هنا تعدّل جهميًا، وتطلب ممن لا يجيز الصلاة خلفه أن يثق به وبروايته، وتستجيز نسبتها من طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حاول الذهبي الاعتذار عن هشام والتماس التأويل له[7] لكنَّ هذا لا يعني لك شيئًا، إذ إنَّ أحمد وهو من هو في الورع، ولم يعذره، وليست هي المرة الأولى، بل قال: عرفته طيّاشًا، فلو استعملنا بعض مصطلحاتك المفضلة [غير الشرعية فأوصاف المدح والذم شرعًا إنما هي الأسماء والأحكام الشرعية] فأنت من المدجنة على هذا.
فإن قلت: لكن الحديث أخرجه البخاري (٢٥٦هـ)، وقد وضع له القبول في الأرض، قيل لك: أليس هذا ما كنت ترفضه من خصمك في المناظرة؟ وعورضتَ بطريقتك بأديسون الذي أفاد البشرية في الكهرباء! أم في موضع تعذر، وموضع لا تعذر، وموضع تقول يجب أن نبدّع وآخر لا، وموضع تحتج بالقبول، ومرة لا، وقد كانت علتك التجهم، والخوف منه، فها أنت تحيل إلى من فيه نص من أحمد (241هـ)، وفّر عليك جهد القول بأنه [يشبه] من أطلق عليهم وصف الجهمية.
فعلامَ تغض النظر عمن في الإسناد، وتجيز روايته، وتقبلها، أليس هو الأولى بالتحذير، كونه متعلقًا بالرواية وقد جاءت من طريقه؟ وقد كان أحمد لا يروي عن الجهمية، بل لم يرو عمن أجابوا في المحنة! فلمَ فعلتَ خلافه، فإن قلتَ: لأني خشيت أن أخالف البخاري، ألم يكن خصمك يقول لك: أخشى أن أخالف من تذكرهم من العلماء ممن يصفون النووي بالعلم والإمامة؟ وتقول له الكثرة ليست بحجة، فلسنا ديموقراطيين؟ وهذا يظهر طريقتك جلية، بأنّك لا تراعيها، ولا تحتكم إليها.
يتبع…
[1] المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان الفسوي، ج2، ص281. [2] مسند ابن الجعد، علي بن الجعد الجوهري، ج1، ص527. [3] مسائل حرب بن إسماعيل الكرماني، تحقيق: فايز بن أحمد بن حامد حابس، ج3، ص1223، رقم الأثر: 1992. [4] زاد المسافر، عبد العزيز بن جعفر (غلام الخلال)، ج1، ص296. [5] ميزان الاعتدال، الذهبي، ج4، ص303. [6] ميزان الاعتدال، الذهبي، ج4، ص304. [7] انظر: ميزان الاعتدال، الذهبي، ج4، ص304.