حول المناظرة (4)

نأتي لطرح ابن شمس الدين في المناظرة، إذ بدأ في كلامه بقاعدة تقول بأنَّ قول السلف مقدّم على الخلف، بما يُذكّر بقول اللقاني الأشعري:

وكل خير في اتباع من سلف***وكل شر في ابتاع من خلف

مع أنَّ هذا يحتاج إلى تحرير المقصود منه، فهل يقصد منه الإجماع؟ إن كان يقصد هذا فما ضابطه عنده، وهل هو يقول بانحصاره في الصحابة؟ أو بما يشمل من بعدهم، أم يقول إنه بعد القرون الثلاثة الأولى متعذر أو متعسر كما يقوله ابن تيمية، أم يقصد به الرواية، أم الرأي؟لم يذكر شيئًا من هذا.

وذكر قاعدة بعدها عنده: “إنه لا يعتد بقول الأكثرية، وأنها مبدأ ديمقراطي”، وقال “بتنزيه أهل السنة عن عصمة مشايخهم”، وقال “إنَّ المخرج من السنة القول أو العمل، لا الناس، فلا يوجد شخص عنده مفتاح يدخل الناس به السنة، أو يخرجهم منه، بل يكون هذا بأقوالهم وأفعالهم”، وقال بأنَّ “المخالف في الصفات من أعلى الخلاف مع المبتدعة”.

وقد كان علماء الأصول يبحثون في الحُجة، كيف تقام، وما أدلتها، لذا ذكروا الأدلة الإجمالية، والقواعد في الاستنباط، فيحددون الخلاف، هل هو في (الدليل) أو (القاعدة الأصولية) أو (الاستدلال) لكن هذا لم يكن واردًا في (المناظرة).

وإنما اكتفى ابن شمس بأن ينقل عن (السلف) دون نظام واضح، فذكر قول البربهاري (329هـ) في كتابه (شرح السنة): (إنما العالم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم والكتب) [1]، والبربهاري حنبلي، فكيف لو نقل له أحد كلام أحمد (241هـ) وفق هذه الطريقة وهو أقدم منه، وقد قال عن الكُتب:

“أكرهها، هذا أبو حنيفة وضع كتابًا، فجاء أبو يوسف ووضع كتابًا، وجاء محمد بن الحسن فوضع كتابًا، فهذا لا انقضاء له، كلما جاء رجل وضع كتابًا، وهذا مالك وضع كتابًا، وجاء الشافعي أيضًا وجاء هذا يعني أبا ثور، وهذه الكتب وضعها بدعة، كلما جاء رجل وضع كتابًا ويترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم” [2].

فهو يقول عما كتبه مالك (179هـ) والشافعي (204هـ) بدعة، فكيف بكتاب البربهاري (329هـ) الذي قال فيه: “جميع ما وصفت لك في هذا الكتاب، فهو عن الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه وعن التابعين” [3]، أليس بهذا يعني أنه يدعي العصمة لكتابه؟ وهو نفسه قال بأنّ أهل السنة لا يدعون العصمة، فهل هو بهذا يخرج البربهاري منهم؟ وبكل صراحة يقول البربهاري: “من انتحل شيئا خلاف ما في هذا الكتاب، فإنه ليس يدين لله بدين، وقد رده كله، كما لو أن عبدا آمن بجميع ما قال الله تبارك وتعالى، إلا أنه شك في حرف فقد رد جميع ما قال الله تعالى، وهو كافر” [4].

وهو في كتابه نفسه يقول: “الكلام، والخصومة، والجدال، والمراء، محدَث يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة” [5]، فعلى هذا أنت خالفت ما قرره البربهاري بعقد مناظرة، بجدل ومراء، حتى [وإن أصاب صاحبه الحق] فإن قلتَ: ليس البربهاري معصومًا، قيل: ولا أنت، وقد ادعى في كتابه شيئًا وأغمضتَ عنه! بل في كتابه: “لكل نبي حوض، إلا صالحٌ النبي عليه السلام فإنَّ حوضه ضرع ناقته” [6] وقد زعم مؤلفه أنَّ من انتحل شيئًا خلاف كتابه ليس له دين وشبهه بالقرآن! ومع ذلك تستدل به وتحتج به بحجة النقل عن “السلف” فهل كلام البربهاري ملزم للعالمين؟

وبقي ابن شمس ينقل مثل هذه النقول، ولما قيل له خالفوك في موضع، يكون جوابه: ليسوا بمعصومين، فما الذي جعل العِصمة فيما استحسنته من كلامهم دون ما استشنعه خصمك من كلامهم؟ فإن قال بأنَّ لديه دليلًا يحكم به على الأقوال ويميّز به دونها، قيل له ألم يكن بدليلك غنية، عن حشو اللقاء بنقل شبه آليّ عن الرجال.

وقد احتج بابن جرير الطبري (310هـ) في نقل في الجهمية، على أنَّ ابن جرير الطبري نفسه يقول في تفسيره عند آية (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها): “غير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره، أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض” [7]، ويذكر ابن شمس كذلك ابن تيمية (727هـ) في كلامه، مع أنَّ ابن تيمية نفسه رد على هذا القول بقوله: “أما كونه لا يفضل بعضه على بعض، فهذا القول لم ينقل عن أحدٍ من سلف الأمة وأئمة السنة” [8] فعلى هذا هل ابن جرير من السلف؟ أم من الخلف؟ وما الفيصل بينهما، والقضية في الصفات كما ترى، وقد جعلتها أعلى الخلاف، أم المسألة أن تنقل أي شيء تجد فيه موافقة لك؟ على أن البحث العلمي، يجعل المرء يبحث فيما يخالف قوله، وإلا لن يعدم أن يرى ما يوافقه.

يتبع….


[1] شرح السنة، البربهاري، ص99. [2] مسائل أحمد، رواية ابنه عبد الله، ص437. [3] شرح السنة، البربهاري، ص103. [4] شرح السنة، البربهاري، ص103. [5] شرح السنة، البربهاري، ص39. [6] شرح السنة، البربهاري، ص44. [7] تفسير الطبري، ج2، ص403. [8] مجموع الفتاوى، ج17، ص76.