حول المناظرة (3)

هذا أهم ما جاء في مضمون كلام الحسيني، وحتى لا يطول الكلام فيما ذكره ففيما سبق كفاية، ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي الإغراق بالاستشهاد بالرجال، وأحكامهم، وكان من أهم ما ذكره أنَّ النووي ترجم له الذهبي فوصفه بأوصاف تدل على إمامته، ولكن هذا ينطبق على الزمخشري أيضًأ، فقال الذهبي: “العلامة… كبير المعتزلة”، وقال: “تخرّج به أئمة” [1]، فقد تخرج به أئمة وفق وصف الذهبي، فلما يقول ما الذي يجعل الزمخشري يقارن بالنووي؟ هنا لا بد أن يذكر هو الفرق عنده لم لا يقاس عليه، لا أن يكتفي بمنع هذا.

والذهبي وصف العديد من الناس بالعلم، فمثلًا عمران بن حطان (84هـ)، وهو مادح قاتل عليّ بن أبي طالب بقوله: يا ضربة من تقي ما أراد بهاإلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حينًا فأحسبه*أوفى البرية عند الله ميزانًا [2] قال في ترجمته: “من أعيان العلماء” [3]، وعمران بن حطان، روى البخاري له، وهذا أبو عبيدة معمر بن المثنى (209هـ) وصفه الذهبي بقوله: “الإمام العلامة، البحر” [4] ومع ذلك جاء وصفه بأنه خارجي من ثلاثة، البلخي، والجاحظ، وابن قتيبة! وقد نقل عنه البخاري في صحيحه دون إحالة، وهذا يجرنا إلى نقطة ثانية.

قال بأنَّ النووي وضع له القبول في الأرض، كأنه يستشهد بحديث رواه البخاري ومسلم مفاده أنه إذا أحب الله عبدًا، وضع له القبول في الأرض، ويستشهد لذلك بانتشار كتبه وكثرة نفعها، ولكن هنا لا بد من التنبه إلى مغالطة، مثّل عليها الغزالي، بأنه لما يقال: الأفعى طويلة، لا يعني ولا يساوي أنَّ كل طويل أفعى، ومعنى هذا حين يقال: إنْ أحب الله عبدًا وضع له القبول في الأرض، فإنَّ هذا لا يساوي، إن وضع القبول لعبد في الأرض فهذا يعني أنَّ الله أحبه!

وإلا بهذه الطريقة يصح الإلزام عليه بانتشار كتب أقوام هو نفسه لا يرضى مسلكهم، ولذا فإنه لما احتج عليه بالزمخشري رفض دون بيّنة، وقال العلماء هم من قبلوا النووي ونقلوا عنه، وهذا غريب كأن الزمخشري لا ينتشر إلا بين السوقة! على أنَّ الذهبي الذي تحاكم إليه قال تخرّج به أئمة، أو تضحي المنافسة في تحقيق من انتشر ذِكره أكثر وهذا يعني أنه أصوب قولًا وأهدى سبيلًا، على أنَّ الكثرة والقلة ليست علامة على الصحة والبطلان، وهي نسبية تتبع ظروفًا كثيرة، فالشافعية متى سادوا في موضع انتشر ذكر علمائهم، وحين ساد المعتزلة يومًا كانت السطوة لهم، ولما كانت الإسماعيلية ظاهرة، كان لكتبهم رواجها، فهذا لا يدل على صحة ولا بطلان، وإلا لتركنا المناظرات والبحث والنقاش، إلى النظر في (الأعلى مبيعًا!)

ولو نظرنا في ترجمة تلميذ أبي يوسف القاضي، بشر المريسي، ثم نظرنا إلى كتاب السرخسي، وبدائع الصنائع، في الفقه الحنفي، لظهر إلى أي درجة اعتنوا بمسائله في الفقه، فهل هذا يعني أنَّ بشرًا وضع له القبول في الأرض؟ هذه الأسئلة لا يجيب عنها الحسيني ولا يظهر أنه أراد الإجابة، والشاهد من هذا أنَّ هذا الاستدلال فيه ما فيه، ونرجع إلى نسخ الصحيح، فالبخاري انتشر صحيحه، وحوى ما رواه عن عمران بن حطان، وما نقله عن أبي عبيدة، فهل يرى الحسيني بهذا أنَّ ابن حطان وضع له القبول في الأرض، وهذا شاهد على أنّ الله يحبه؟ أم لا يجزم بهذا، فإن لم يجزم فعلام جزم بالقانون نفسه.

حتى ما ذكره في المقطع الدعائي، ألا يرى أنَّ القضية ليست مثل ما يصوره، فليست الحكاية في كمية الخطأ نسبة إلى الصواب، بل خصمه ينازعه في (نوعية) الخطأ، وهذا يجر إلى طريقته في المحاججة، فإنه لما اختار نفي الأشعرية عن النووي، كأنه بهذا سلّم كلام خصمه بأنه لو كان أشعريًا وفق ادعائك، لصدقت فيه أحكامك، فاختار أن يغيّر مذهبه لهذا، وإلا لعرضه كما هو وناقش فيه، وهذا يدفعنا إلى الحديث عن طرح محمد بن شمس.

يتبع…


[1] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج20، ص153. [2] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج4، ص215. [3] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج4، ص214. [4] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج9، ص445.