حول المناظرة (2)
في غمرة التحمّس لخطة الدفاع (الغريبة) التي اعتمدها الحسيني، وحرصه على بيان أنَّ النووي خالف الأشعرية، اندفع في بيان الفرق بينهما، فقال:
(بأنّ النووي قال في الأذكار: أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى تقديم مشيئة الله على مشيئة من سواه فقال: هذا قول أهل السنة: خالف فيها الأشاعرة لأنهم مجبرة).
وهذا القول ليس مخالفة لقول الأشعرية، ففي القرآن (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فهل الأشعرية حكّت هذه الآية ولا تثبت لفظها؟ حتى يجعل من نسبة المشيئة إلى العبّاد قولًا صريحًا في مخالفة النووي للأشعرية، فبالرجوع إلى ابن فورك (406هـ) يمكن معرفة قول الأشعري في الكسب:
“ما وقع بقدرة محدثة، وكان لا يعدل عن هذه العبارة في كتبه، ولا يختار غيرها من العبارات في ذلك، وكان يقول: إن عين الكسب وقع الحقيقة بقدرة محدثة، ووقع على الحديثة بقدرة قديمة، فيختلف الوقوع فيكون وقوعه من الله بقدرته القديمة، إحداثًا، ووقوعه من المحدِث بقدرته المحدثة اكتسابًا” [1].
فالأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة، ويقول هي حقيقية، وهذا يقال في المشيئة، لذا قال الرازي (606هـ) -وهو موضع قال المعلمي: إنه من تأليفه في رسالته في بحث تفسير الرازي-في آية: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله):
“أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة، لان فعل تلك المشيئة صفة محدثة فلا بد في حدوثها من مشيئة أخرى” [2] فالرازي يجعل المشيئة مثل القول في القدرة، بأنها محدثة، وأنّ مشيئة الله القديمة توجدها، وهو أشعري، فهل هذا كان يثبت خلافه مع الأشعري!
أما ما يقوله الحسيني بأنّهم يقولون بالجبر، فهذا في تقييم مدى نجاحهم في هذا التوفيق بين الإرادة المحدثة، والقديمة، بين المشيئة المحدثة والقديمة، فمخالفوهم يقولون بأنّ كسب الأشعري غير معقول، وأنَّ مؤداه الجبر، بل صرّح بعض الأشعرية بهذا كما نقله الحسيني عن البيجوري، ومن قبله وصفه بهذا الرازي، لكن هذا لا يعني أنهم يصرحون بأنه لا مشيئة في العبد، أو لا قدرة فيه، بل مرد ذلك إلى الحكم على ما قالوه بأن ما أثبتوه لا حقيقة له، وفرق بين تقييم قولهم، وبين ما صرّحوا به، فهم لا يصرحون بأنه لا مشيئة للعبد، ولا استطاعة، ولا قدرة، حتى يقول بأن من أثبتها فإنه يخالفهم.
كذلك الأمر في قوله في حجية خبر الواحد، إذ قال الحسيني:
(إن النووي قال خبر الواحد يفيد الظن ويفيد العمل، وهذا يرد على الأشاعرة إذ قالوا يفيد الظن ولا يجب العمل به!)
وهذا غير صحيح، فإنهم يقولون بأنَّ خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو قول النووي، ولذا فإنه لا يحتج به في العلميات، في المسائل التي تحتاج إلى قاطع عقلي أو نقلي من مباحث العقيدة، وأما في الفقه وهو الأحكام العملية، فهو حجة، وقد عقد الرازي في المحصول بابًا بعنوان: (في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع) واحتج لوجوب العمل بخبر الواحد بـ"الإجماع، والسنة المتواترة، والقياس، والمعقول"[3]، وسبق أن ذكر كتاب (المنتخب) للرازي وفيه ينصر وجوب العمل بخبر الواحد لما فيه من ظن قال فيه:
“أجمعنا على أنّ خبر الواحد مقبول في الفتوى والشهادات فكذلك في الروايات بجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة”[4].
وجاء الحسيني إلى كلام النووي بأن الإيمان يزيد وينقص، وأنه قول وعمل واعتقاد، وقال (هنا يرد على الأشاعرة)
ولا أعلم هل يقصد الرد على المرجئة وخانه التعبير فقال (الأشاعرة) فإن كان قصد الثاني دون سبق لسان، فإنّ الأشعري له قولان في المسألة، قال في (مقالات الإسلاميين): “في حكاية جملة قول أصحاب الحديث والسنة” فذكر “ويقرون أنّ الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص” [5] إلى أن قال: “وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب” [6]، والقول الآخر بأن الإيمان هو “تصديق بالقلب، وهو اعتقاد المعتقد صدق من يؤمن به”[7]. وبكل قول قالت طائفة من الأشعرية، والأقرب لفقهاء الشافعية الأول لأنه موافق لقول الشافعي (204هـ) وهو يرد على الأحناف، ولذا تجد السبكي (756هـ) قال به ووصفه بمذهب السلف ورفض ما سواه [8]، فليس في هذا نفي لأشعريته.
يتبع…
[1] مقالات أبي الحسن الأشعري، ابن فورك، ص92. [2] مفاتح الغيب، ج31، ص71. [3] المحصول، الرازي، ج4، ص354. [4] المنتخب من المحصول، الرازي، ق86، ب. [5] مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، ص293. [6] مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، ص297. [7] مقالات أبي الحسن الأشعري، ابن فورك، ص153. [8] انظر: السيف المسلول على من سب الرسول، تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، ص412.