حول المناظرة (1)

شاهدتُ [المناظرة] بين الحسيني وابن شمس، التي دارت حول عقيدة النووي، وكان من أوائل ما لفتني التشتت في موضوع المناظرة، هل هو حول عقيدة النووي، أو حول كتاب ابن شمس عن النووي، أو الحكم عليه! وكان ينبغي أن يقع الاتفاق بداية حول تصوير عقيدة النووي، قبل أن يتم التباحث في الحكم عليه، لكنَّ الأمر كان متداخلًا لأبعد حد، كذلك بخصوص تنظيم هذه المناظرة ففيه أيضًا إشكال إذ سمح للحسيني بأن يعرض مقطعًا مجهزًا للدعاية لما يطرحه، وهو أمر لم يقم به الطرف الثاني، ففي المناظرات ينبغي أن تكون الأسلحة الدعائية للطرفين متساوية، فضلًا عن عدم احترام توقيت محدد، لأن الكلام استمر طويلًا حتى أنهكا أنفسهما والمتابعين، وهذا بعيد عن طريقة إعداد المناظرات، وهذا الكلام لكل من وافق عليه من المتناظرين أو الجهة المنظمة.

وأبدأ بالتعليق على ما ذكره الحسيني، فقد اعتمد في دفاعه على خطة ليست في منتهى الذكاء، وهي محاولة نفي أشعرية النووي! وهي أوضح من أن يكابر فيها، وفي سبيل هذا قال:

(إن وصف النووي بأنه أشعري يبدع من خالفه من كلام السبكي لا الذهبي).

وهذا لا يغيّر شيئًا من النتيجة، فلو سلّم به جدلًا فإنَّ الذهبي لا ينفي أشعرية النووي، والسبكي تلميذ الذهبي وهو مؤرخ للشافعية فكلامه له وزنه التاريخي، وقد رأيته كل حين يحتج بادعاء إطباق العلماء، فمن من العلماء من لدن النووي حتى الصراع المحدث في هذا (السلفي/السلفي) نفى أشعرية النووي أصلًا؟

(قال الحسيني: إن النووي كان يكره علم الكلام، ولذا أحال أحد سائليه إلى تجاوز المقدمة المنطقية لابن الحاجب)

وما استنبطه غير صحيح فليس هذا الموقف في الكلام، بل هو لتحريمه الفلسفة، إذ إنَّ النووي (676هـ) له موقف من المنطق، متابعة لابن الصلاح، لأنه يدفع إلى (الفلسفة) لا الكلام، لذا أنكر على الغزالي مقدمته المنطقية في المستصفى، فقال: “كيف غفل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين فمن قبله من كل إمام هو له مقدّم، ولمحه في تحقيق الحقائق رافع له ومعظم ثم لم يرفع أحد منهم بالمنطق رأسًا ولا بنى عليه شيء من تصرفاته أسًا” [1]، والجويني من كبار المتكلمين الأشعرية، والنووي معظم له جدًا حتى إنه يسميه “فحل المذهب”[2].

أما المنطق فإنه يعتبره مدخلًا إلى التفلسف، كما قال ابن الصلاح (643هـ): “ما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر”[3]، وفي معرض رده على الغزالي استشهد بالمازري فقال في وصفه: “كأن إمامًا بارعًا محققًا في مذهبي مالك والأشعري” [4] وأثر هذا فيمن بعده لذا قال السيوطي: “أما المنطق وعلوم الفلسفة فلم أشتغل بها، لأنها حرام كما ذكر النووي” [5].

أما الكلام فالنووي يتابع الغزالي على أنه فرض كفاية في زمنه لانتشار البدع [من منظور أشعري] وفرض عين لمن شك في معتقده [6]، والفلسفة في ذلك الزمن كانت تطلق على مجموعة من المقالات السينوية في المقام الأول، كقدم العالم، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ونحو هذا، لذا نص النووي على أنَّ تعلم الفلسفة حرام [7]، أما الكلام فالمقصود به الطريقة الأشعرية.

(قال الحسيني: إنَّ النووي كره كتاب المنتخب للرازي لما فيه من الكلام)

وهذا ادعاء عجيب جدًا، إذ إنه في نفس الموضع الذي ينقل منه أنَّ النووي طلب من تلميذه أن يقرأ في “الأصول” واقترح عليه كتاب “مختصر ابن الحاجب” فإنه “كان رجلًا صالحًا” فذهب الطالب إلى شيخ آخر واقترح عليه كتاب المنتخب للرازي فضاق النووي لهذا وقال: “تعمل برأيي أو برأيك”؟! حتى قال إنه أخرج المنتخب.

فمن أين له أنّه أخرجه لما فيه من علم الكلام، وابن الحاجب (646هـ) أشعري المعتقد والنووي يثني عليه، وفي مختصره في الأصول علم كلام، بل فيه مسألة بنيت على خلق القرآن [اللفظي]، وإثبات الكلام النفسي وهي: “حد الأمر: اقتضاء فعل غير كفٍّ على جهة الاستعلاء…المعتزلة لما أنكروا كلام النفس قالوا: قول القائل لمن دونه افعل ونحوه”[8].

فالمعتزلة عندهم الأمر: افعل، وينكرون الكلام القديم، فيمنعون أن يخاطب الآمر معدومًا غير موجود، فالكلام عندهم محدث، وله صيغة، أما الأشعرية فهذا التعريف على أصولهم بأنَّ الكلام نفسي ليس حرفًا ولا صوتًا وأنه قديم، وسبق للجويني إلى بيان الثغرات في هذا بأنَّ هذا يلزم منه أنه يأمر معدومًا حال عدمه [9]، وأزرى في بحثه على الأشعري ومن وافقه! وليس هذا المهم الآن، بقدر بيان أنَّ كتاب ابن الحاجب حوى مسائل كلامية وأي مراجع للكتاب يقدر على قراءتها، ومباحث بنيت على مسائل كلامية منها الموقف من مسألة (خلق القرآن). يتبع…


[1] طبقات الشافعية، النووي، ص101. [2]رؤوس المسائل وتحفة طلّاب الفضائل، النووي، ص157. [3] فتاوى ومسائل ابن الصلاح، ومعه أدب المفتي والمستفتي، ج1، ص208، 209. [4] طبقات الشافعية، النووي، ص101. [5] التحدث بنعمة الله، عبد الرحمن السيوطي، ص138. [6] انظر: روضة الطالبين، النووي، ج10، ص223، 224. [7] انظر: روضة الطالبين، النووي، ج10، ص225.