التأكيد على الريفية

حلقة من صراع الريف والمدينة، بالمناطق التي تعيش بعيدًا عن المدينة وصخبها، وتعقيدها، في الأرياف حيث كان العلم مرادفًا لهذه الفئة من المعممين، وسط جمهور تسود بينه الأمية، ويترقى فيه ابن الريف عبر آلية تعليمية تعود للعصر العباسي، تبدأ بالكتاتيب، حينها كانت الغلظة والقسوة طبعًا فيهم، إذ كانوا يشبهون رجال الدولة اليوم، قبل استحداث بدعة التقرّب والتحبب إلى العامة مع حسن البنا وأمثاله، ثم صارت آلية محببة بينهم.

بسط هؤلاء سلطانهم في مرحلة الأتراك، الذين استحدثوا شيخًا للأزهر، وصاروا أكبر داعم للدولة في ذلك الزمن، وكانوا مصدر تسويغ لنفوذ الملكية والإقطاع، فهم سدنة الإقطاع الروحي في المقام الأول، وقد سعت هذه الطبقة إلى الحفاظ على مواقعها، مدركة أن أي تحديث يعني سحب البساط من تحت أقدامها.

وفي مذكرات حسن البنا يذكر أنه قابل بعض أهم مشايخ الأزهر في زمنه، وخاطبهم بحرارة، إن لم تقفوا لأجل الدين فقفوا لأجل الخبز الذي تأكلونه، لأنه إن استمر الوضع على ما هو عليه، فلن تجدوا هذا الخبز، وتعاطف هؤلاء مع كلامه، كونه دافع عنهم.

بلهجة ريفية، ومثل حكايات العجائز، قال بأن عالمًا كبيرًا كان يزوره الأطباء والمهندسون، وهو يشير إلى الغبطة لحضور هؤلاء عنده، إنها عقدة النقص التي أصابت هذا القطاع مع استحداث علوم لم يعرفوها وكانت تحديًا في بدايتها لسلطان روحيي الإقطاع، وبحضورهم دل ذلك على أنَّ الأزهري المذكور كان صاحب علم الكبير.

فمع بدايات التعليم الحديث كان الأطباء والمهندسون يلمسون فجوة بين منطق البحث والعلم، وبين منطق هؤلاء، لكن تيار الريف الروحي سعى للتأكيد على أنه لن يرفض أن تكون مهنتك الطب، متى فصلت عقلك عن التفكير كطبيب، وفق قاعدة تفرق بين التقنية والحضارة، بين التجريب المحض والفلسفة التي قادت إليه، فرأوا قبول التقني فقط، مع رفض فلسفته وحضارته وثقافته وأي شيء قد يعكر عليهم ما يقولونه.

ذكر هذا الأزهري قصة من دلالتها استغناء هذا (الولي) عن الطب الحديث، وهؤلاء الطلاب لو صدقوا به يقينًا لأغلقوا عياداتهم، فما فائدتها وهناك من يقوم بمثلها دون مبضع أصلًا، فمن دلالات هذه القصص، التأكيد على استغناء الريف عن المدينة وعلومها وتحديثها، لصالح الإبقاء على الوضع القديم، أيام رهبتهم وسلطانهم، هو قتال لمحاولة الرجوع إلى الوراء، في عالم ينتقل فيه الريف إلى التمدن، وهو ما يثير فزعهم، ويثير خشيتهم على مواقعهم.