بعث إليّ أحد الإخوة هذا المنشور وطلب تعليقي عليه، ولا أدري ما تخصص كاتب المنشور لكن هذه تعليقة سريعة على ما كتبه، قال: لو استثنينا المذاهب العقدية، يقال لك ذلك.

قال بأنَّ تراث الرازي كبير جدًا في الأصول مثلًا له المحصول يمثل الذروة، يقال بأي تقييم؟ إن علمنا أن مسائل الكلام هناك من رفض إدخالها في أصول الفقه، فضلًا عن ارتباط الأصول بالفروع، فصاحب الرسالة له الأم، والفروع مبنية على الأصلين الكتاب والسنة، فالرازي ما يدريه ما السنة؟ وليس هذا كلام خصم، بل حين أدخله الذهبي في الضعفاء، نافح عنه السبكي وقال بأن الرازي ليس من أهل الرواية فلم أدخلته في الضعفاء؟

وانظر الشافعية بعد الرازي وليسوا بمتحاملين عليه، إذا ذكر الحديث تجدهم يذكرون تحقيق ابن تيمية في مصطلحاته، والحكم على الرواية، كابن حجر، والسخاوي والسيوطي، وغيرهم، دون ذكر للرازي بل كم من حديث حكموا بوضعه كان الرازي قد سبق إلى نقله دون معرفة منه بالثابت أو الضعيف.

ولو نظرنا إلى المحصول لوجدنا أنَّ إنتاج ابن تيمية النقدي عليه أكبر من المحصول نفسه، والنقد محرّك العلوم، ولو تحاكمنا إلى الشافعي نفسه، فحين تعصب محمد بن الحسن لأبي حنيفة بحجة أنه أعلم، فقال: ما جاز له أن يسكت، وصاحبكم يقصد مالكًا ما جاز له أن يتكلم، يقصد أن أبا حنيفة أهل للإفتاء، بخلاف مالك، رد الشافعي من أعلم بالقرآن والسنة؟ فأقر بمالك، فقال الشافعي فماذا بقي؟ القياس فعلى أي شيء يقيس؟!

وابن تيمية سجّل نقده على الرازي بأنه ضعيف في الفقه، ودونك كتب الفقه كم احتاجوا فيها إلى الرازي، بخلاف ابن تيمية حتى لم يقدر على استثناء رأيه واجتهاده مفتي الشافعية في وقته السبكي الكبير وهو خصم له، بل إنَّ مما وصلنا من رد ابن تيمية على السبكي مجلدان حافلان يدوران في بحث الإجماع بما هو مندرج في الأصول، لكن بعض الناس لا يلتفت إلا إلى العناوين، ومثلها مجلدات ضمن مجموع الفتاوى، إضافة إلى كلامه في المسودة في أصول الفقه، وحتى اليوم لا تزال المجامع الفقهية ودور الإفتاء تحتج بابن تيمية في الفقه فأين الرازي من هذا؟ فإن كان هذا حاله في الفقه فكيف تجعل كلامه في أصولها الذروة، وهل يُتصور أن يبلغ الأصولي غايته وهو ضعيف في الفروع؟ فحينها يخفى عليه دلالة أصل قال به، فلو لم يكن للشافعي باع في الفقه، أنى له أن يكتب في الأصول.

أما التفسير فليس تفسير الرازي المطبوع كله من عمله وللمعلمي رسالة في تفصيل هذا، وقد جمع ما تفرق من كلام ابن تيمية وطبع في كتاب تفسير في مجلدات، وقد كان تفسير الرازي محل اعتراضات من مفسرين حتى قال بعضهم فيه كل شيء إلا التفسير، وينهمك في بسط الشبهة دون حلها، ويعاد فيه ما سبق، بأن التفسير مبني على العلم بالحديث، فلا يكتفى فيه باللغة مثلًا أو المنطق، ودون معرفة سبب النزول الجهل بالحديث، وإلا سيكون تفسيرك لقوله: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالغدوة القصوى والركب أسفل منكم)، معتمدًا على تقليد ما نقل من سببها وهكذا، فكيف إن زج مسائل فلسفية لا علاقة لها بالقرآن في التفسير، ليضحي (لا أحب الآفلين) مبنيًا على كلام أرسطو بأنَّ الأول لا يتحرك، وقد رد عليه ابن تيمية وأجاد بأنَّ هذا لا يعرف في كلام العرب!

أما اللغة فلا يعرف عمق امرئ فيها لشرحه كتبًا فكم من كتاب شرحه سيبويه؟! وقد تشرح بديهيًا لعالِم، وهو غامض لعامي، فليس معد مقرر المدارس أعلم من آينشتاين في الفيزياء لأنه كتب كثيرًا وشرح كثيرًا! ورسائل ابن تيمية في اللغة عديدة، فقد يشرح مثلًا آية (إن هذان لساحران) فيأتي بوجوه يحتاجها من بعده في النحو ويحيلون إليه، وفي فقه اللغة كلامه في المجاز مثلًا دارت فيه الردود والدراسات، فهي في القواعد بتجديد، لا تطبيق لما حفظته في شرح كتاب.

نأتي إلى الكلام والفلسفة وهما أخص ما عرف فيه الرازي، وأن الرازي كان نافذة ابن تيمية لتلك المعارف، فمن أين له هذا؟ فأين الغزالي قبله وابن حزم، وابن سينا، وابن رشد، وغيرهم، وابن تيمية قرأ للرازي وأقرأه لغيره، كما يقرأ المتأخر لمن سبقه، كما قرأ الرازي الغزالي وابن سينا، وحين شرح الرازي إشارات ابن سينا نقده الطوسي، وقال هو أشبه بالجرح منه بالشرح.

والكلام مختلف عن الفلسفة، ومبناه على معرفة مقالات الفرق وخلافهم وهو مبني على تحقيق تاريخي لا النظر العقلي فحسب، وللرازي كتيب في المقالات: (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) اعتمد فيه على غيره دون تحقيق، وقد لا تظفر له بتحقيق واحد في مسألة في تاريخ الكلام لقرب المبحث من التاريخ والرجال وعلم الحديث، والرازي نافر عنه، بخلاف ابن تيمية فهو أقرب إلى تاريخ الكلام من الرازي، أما الفلسفة فقال بأن الرازي يعرف الفارسية! وهي ليست لغة الفلاسفة الذين اعتمد عليهم الرازي، وهي اليونانية، فيقلد غيره فينقل عن أرسطو ما لا يثبت عنه، وبعدها يقال كان يعرف الفارسية! فهذا تكثير دون مس بالمسألة، فابن تيمية والرازي ينقلان عن أرسطو وأفلاطون بالواسطة، ولا يهم بعدها أكانت واسطة فارسية أو عربية.