يعاد التاريخ مرة كمأساة وأخرى كمهزلة!

حين تشاهد شيخًا فرحًا باكتشافاته العظيمة وهو يتكلم في ابن تيمية ليعيد أمجاد القضاة في عصر المماليك، تجد أنَّ التاريخ يعيد نفسه لكنه هذه المرة كمهزلة، بعد أن انحسر وجود هؤلاء، وصارت معركة التمذهب لا تدور اليوم مع ما سمّوه تندرًا بـ(فقه الدليل) بل مع طرق الإثبات العلمية بـ DNA، وقد أضحى التمذهب حملًا ثقيلًا في الخطاب السياسي الداخلي على المؤسسة الأزهرية نفسها فتخلعه لتنقض على من تسميهم بالمتطرفين الذين يمنعون-كما هو في المذهب-التهنئة بأعياد رفاق الوطن، وتحاول التوفيق بين التمذهب والدولة الوطنية.

ماذا تبقى من ذلك التراث الذي لا يستدعى إلا للمكايدة البائسة؟ إن كان ابن بدران وهو يتكلم عن المذهب الحنبلي فيذكر أنه لم يُسأل عن بعض مسائله إلا نادرًا فاضمحل استحضاره لها، فكيف بمن تزيّن بصوره وخلفه موسوعات قانونية فقهية من العهد التركي لا يكاد يوجد لها في الواقع أدنى حضور سوى شذرات في كتيّب سمي بالأحوال الشخصية، واستعير فيه من مذاهب متنوعة بما يتوافق في بعضها مع عدة معايير ومنها المعايير الأوروبية فيما لا يمس الخزينة!

ماذا تبقى من الأشعرية؟ لو استثنينا الأهمية التاريخية لمتاحف الفرق سوى الحديث عن الاقتران العادي، وأنَّ غلاء الأسعار لا علاقة له بالسلطة السياسة والإدارة الاقتصادية، بل هو خلق مباشر لا نقدر فيه على شيء سوى التسليم والصبر؟ ثم إنه على قول ((مولانا)) الشارح الباجوري فالإنسان مختار ظاهرًا مجبور باطنًا، فطأطئ رأسك وارض بما هو موجود، فليس في الإمكان أبدع مما كان.

وماذا تبقى من الحديث عن أهمية الاجتهاد ولا تزال المؤسسة تلوك تخريجات المرحلة الملكية في البلاد، بعد عقود طويلة من تحولها إلى نظام جمهوري دون إشارة منها على أنها استوعبت الفرق بينهما.

لم يبق سوى الإلهاء الإعلامي بالحديث عن السيد البدوي، وكراماته الخارقة التي تتعطل في كل ما يمس السياسة أو الاقتصاد، وعن عدو وهمي يحذر منه في كل مجلس، ويلمز به كل مخالف، وهو ذلك الذي لا يشارك رحلة الطواف المهمة حول قبر، ولا يتتبع العصي والأحذية والأواني التي تنسب لصالحين، فيلتمس فيها البركة والنجدة في حياته الرغيدة التي منحه إياها الوطن.

ولله الحمد فقد خفت صوت الرعب من مهددي الأمن، ألم يكن أكبر ذريعة لتصدّر المؤسسة الوطنية التي فهمت العمق الوسطي للإسلام، وعرضت نفسها على أنها الأضمن للسلامة؟ رغم أنَّ كثيرًا من المنضوين تحت هذه الراية لو فتشنا قليلًا فيما كتبوه من قبل لوجدنا فيه ما يلعنون اليوم قائليه، لا علينا فقد أمر الرب بالستر، فما الحاجة لاجترار عهد دراويش عبد الحميد والخزينة لا تحتمل التوسع في الإنفاق كما تعلمون، فلن تمتلئ الزوايا بأحد، لن يطعمهم عبد الحميد وهم يدقّون معزوفة الحضرة كل يوم، هي إعادة للتاريخ لكن كمهزلة.