بأسمال بنيَّة، متفاوتة، وعصبة لا تستر رأسه، وقد انتفش شعره من جوانبها، بدأ بضرب أوتار عوده كأنه يحادثه، أهو يأخذ عليه عهدًا ألا يخذله؟ بدأ بالعزف، بلا نغمة واضحة، وسط التهاء الحضور، ثم من بين النغمات ظهرت نغمة لافتة، فساد الصمت، كخطيب بينهم، أدركوا نغمة شجيّة يختلط فيها الحزن بالطرب، أعادها عليهم وهم يتفقدّونه بأعينهم، بعضهم تسمّر يرقب يديه وما تفعلان.

حضن عوده كطفل يُنيمه، راقبوا يديه وهما تعبثان بدقة، رفع عوده يشدَّ عليه، زادت اضطراباته، تبعث نغمات عجب كثيرون أنّ مثلها يمكن أن تخرجها خشبة وبضعة أوتار، ثم مال بعوده كأنه قِربة يسقي بها من حولَه، وعصبة رأسه تراقصه يمينًا وشمالًا، أغمض عينيه فزاد تفرّدًا، وعصر عوده فأخرج كل أشجانه، قطّع نغماته كأنه يوزعها على جمهوره بالنفَر، وما عاد إلى نغمته الأولى إلا وقد ضحك بعض الناس مذهولين، كيف يفعلها؟

كانت النغمات، مادة جذب الفقراء ومتعتهم، وفي عصرٍ فشى فيه الجهل، ما الذي أمكنهم أن يفسروا به ذلك السحر الذي رأوه وسمعوه، لم يكن العازف مجرد أستاذ، بل أضحى وليًّا لله في نظرهم! وصف الفارابي الموسيقى فجعلها قريبة من السحر، أليس التعب ينشأ عن إدراك الزمن، فالموسيقى تبعد سامعيها عن إدراكه فيقل تعبهم، واستشهد لذلك بأنَّ الصنّاع يستعينون بالغناء فلا يستحضرون زمنًا لذا يمر الوقت بهم دون شعور بالتعب.

كانت أمرًا مذهلًا لم تخيبهم الألحان في فرح أو حزن، فاستعانت بها فرق متنوعة من المتصوفة، مدركة ما فيها من أثر في الناس، بل جُعلت أذكارهم في كثير من الأحيان تناسب اللحن والإيقاع! وصارت الكتابة فيها تُعرف في الفقه بمسألة السماع.