في سن السابعة أو الثامنة من عمره، سأله أحد ضيوف عائلته: ماذا تعرف عن الرب؟ لم يكن يعرف الكثير، قال له الضيف: الرب روح، نظر الطفل في وجوه عائلته، هل يقرون هذا الكلام أم لا؟ نعم، كانوا يقرونه، فأحنى رأسه أمام معرفتهم التي تفوق معرفته، واعتقد أن الله روح.
لم تكن معارفه الدينية ذات شأن، فدفعه والده إلى مدرسة دينية حتى يدرس العهد القديم، إذ كان ينتمي إلى الديانة اليهودية، وبدأ بحضور حصص دينية على رجل دين في أوديسا، واستمر بالدراسة بضعة أشهر، تشجع خلالها في إحدى المرات بأن يطرح سؤالًا على معلّمه قائلًا: “إذا قبلنا مثل بعض الناس، بأنَّ الرب ليس موجودًا، كيف أتى هذا العالَم إلى الوجود؟” همهم المدرّس وقال: يمكنك أن تطرح السؤال نفسه عن الرب أيضًا" هنا قال: أدركت أن فقيه الدين ليس مؤمنًا بوجود الرب، وبهذا ألقى المدرّس بذور معتقداته التالية[1].
هذا الطفل هو ليون تروتسكي، أحد أبرز الوجوه الماركسية التي ساهمت في الثورة البلشفية، ومؤسس الجيش الأحمر السوفييتي، إنه المنافس السياسي الأبرز لستالين، والذي كان لينين قد طلب منه بإصرار شديد متابعة برنامج الدعاية المناهضة للدين[2]، والذي عمل فيه بحماس بالغ، وهندس العديد من البرامج لمكافحة النفوذ الديني[3]
الإجابات المختصرة التي سمعها الطفل تروتسكي كان لها أعظم توجيه له في معتقدات تروتسكي البالغ التي انتهت إلى مناهضة الدين، وكان في صدور كلمة: “الله روح” على لسان ضيف مستعرضًا معارفه في الدين، أثرها في تروتسكي، تأثير سبق لنيتشه أن وصفه فقال: “من قال: (إن الله روح) قد خطا الخطوة العظمى نحو الجحود، وليس من السهل إصلاح ما تفسده مثل هذه الكلمة في العالم”[4].
كانت هذه الكلمة تشكل أرضية لما سمعه من رجل دين يطرق واحدة من أعوص المسائل في تاريخ الفلسفة، وهي مسألة تسلسل الحوادث، حين عبّر عنها بقانون السببية، فلو قيل بأنه لا يوجد إله ما الذي سيكون سبب وجود هذا العالم؟ ليجيب بأنَّ هذا السؤال ينطبق على الإله نفسه، هل يمكن لقانون السببية أن يستمر؟ أم يجب عليه أن يتوقف، وإن كان توقف عند نقطة معينة، فلماذا لا يتم إيقافه قبلها، أو بعدها؟ فإن كان له أن يتوقف، فليتوقف عند العالم، وبهذا لا حاجة لإله، أو يستمر بما يشمل الإله نفسه، وبهذا سيصبح افتراض إله أول مغالطة، حيث إنَّ السلسلة تستمر.
كانت هذه المسألة تستحضر كل حين، وتتفرع عنها المواقف، ولم يكن تروتسكي الذي سمع تلك الكلمة فأثرت فيه ليختار طريقه المناهضة للإقرار بخالق، هو الوحيد في هذا المضمار الذي ستشكل هذه المسألة نقطة فارقة في مسيرته، وطبيعة معتقداته، إنها مسألة ضاربة في القدم، تفرع عنها العديد من أصول المسائل التي تشكل مواقف فاصلة في المعتقدات.
بعيدًا عن تروتسكي والقرن العشرين ميلادية، ففي القرن السابع الهجري كان أحمد بن تيمية يهز الوسط الإسلامي بمسألة تسلسل الحوادث، حتى قال ابن حجر العسقلاني: “هي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية”[5]، وهذا يظهر أنه لم يحقق المسألة عنه بنفسه، فقال: هي منسوبة إليه، على أنَّ هذه المسألة دارت في فلكها ردود كثيرة، وبني عليها مواقف عديدة تبدأ بالعقائد ولا تنتهي عندها، ومن قبل ابن تيمية كانت المسألة محل نقاش بين ابن رشد والغزالي، وبين ابن سينا والمتكلمين، وهكذا، ومن قبلهم تذكر فيها أسماء لمتقدمين.
[1]انظر: حياتي، ليون تروتسكي، ترجمة: أشرف عمر، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠١٩م، ج1، ص168-170. [2]انظر: حياتي، ليون تروتسكي، ج2، ص817. [3]انظر على سبيل المثال: الثورة والحياة اليومية، ليون تروتسكي، ترجمة: هـ.عبودي، دار الطليعة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1979م، ص53. [4] هكذا تكلم زرادشت، فريدريك نيتشه، ترجمة: فليكس فارس، دار القلم، بيروت-لبنان، ص337. [5]فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، الطبعة الأولى، ج13، ص410.