العنجهية دون نتيجة

جزء أساسي من تحطيم العلمية في البحوث التراثية يكمن في زاوية الانطلاق إليها، فقد تعوّد الجمهور على حب سماع التبجّح، كالقول: إنك لا تصبح عالمًا ما لم تتقن تسعين علمًا، وعند الفحص تجده يذكر منها (علم) تفسير الأحلام، وعلم الخطابة لتكثير العلوم التي يدعيها!

كان يمكن لمن لم يتعلم أن يتسور زعم العلم بقليل من هذا التبجّح، ويكون الفارق بينه وبين سامعيه في أنه قد قوي قلبه على الادعاء أكثر منهم! ومن زاوية النظر التي حطّمت المعرفة العلمية تصوّر وظيفة العالِم على أنها في مخاطبة الجمهور، ولذا مهما قيل من فقدان العمق والجديد أجيب بأن عذره أنه يخاطب الجمهور! ويسهّل العلوم.

على أن ميزة العالم أنه متى كتب لم يلتفت إلى رأي عام، وإن خاطب فإنما يخاطب من يفهم في الجانب الذي يذكره، انظر الكتب التي دارت حولها الإحالات، هل تجد منها ما خاطب الجمهور بالتسهيل أم إن هدف واضعها أن يحقق، ويقعّد، فهمه من فهمه، أو لم يفعل! أكان الشافعي يخاطب محمد بن الحسن الشيباني أم الأميين في حقول الزرع؟ أو كان البخاري في تاريخه يهمه أن يبسط إشاراته حتى يصيح الجمهور: الله عليك يا مولانا، أكان يخاطب من يسمع بالرواة أول مرة!

إن تحويل العلم إلى مخاطبة للجمهور، نقل وظيفة (العالم) إلى إبهار الجمهور، ويمكن معرفة ما في هذا حين تتصور أستاذ فيزياء عادي يبهر الناس ببعض التجارب وينافسه أينشتاين كذلك حينها يصعب التفريق بينهما!

وبهذه الطريقة في الإبهار تنافس كثير من المشايخ وتزاحموا على صناعة المحتوى المرئي والمسموع الذي لا يمكن أن يسمى ما فيها بحثًا يُرجع إليه ويبنى عليه، حتى أضحى أفضل ما تنتظره منهم تحقيق مخطوط تقرأ فيه لمتقدّم لعلك تطلع على جديد في بحثه، أكثر من معاصر كل همه: تبسيط ما تلقاه، ومخاطبة الجمهور، وتحصيل الوظائف والشهرة، وهذا كله يحطّم البحث المعرفي حين أضحى النظر للمتقدم يفيد أكثر من معاصر كان ينبغي أن يأتي هو بجديد.