الجبرية تطل برأسها كل حين!
كثيرًا ما تسمع في الحلقات والدروس التفريق بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية، وأنه لا تلازم بينهما، فقد يكون في ملك الله ما لا يحب، كبغضه لإبليس، رغم أنه خلقه، وقد يحب ما لا يكون موجودًا حاضرًا بين الناس، كأمره أن يؤمن الناس به جميعًا لا يتخلف منهم أحد.
مع التحذير من الجبرية، كأنها مقالة بعيدة، هذا التأصيل تسمعه في الدروس، لكن ساعة الجد، تجد أن تلك الكلمات تتبعثر لاحقًا، باختلاف التسمية، مثل القول عادة الله في هتك منتقص العلماء معلومة، هذه الكلمة قالها ابن عساكر في الأشعري، ومع تجاوز الغموض في كلمة علماء فهي مقدّمة لا يسلمها خصوم الأشعري، لكن موضوع هتك الأستار صحيحة حتى حين، حين تبنت دولة الدفاع عن الأشعرية فكان متوقعًا أن ينكّلوا بمن خالفه ويهتكوا أستاره، فكيف بمن انتقصه!
لكن هل هذه تُسمى بسنن كونية؟! أو أقرب للاحتجاج بالقدر بتسميتها (عادة الله)؟ نعرف أن الأشعرية أنفسهم في دول لم تتبناهم قُمعوا ونكل بهم حتى كتب القشيري رسالة في المحنة التي نالتهم! يومًا ما قمع أحمد ومن معه ونكّل بهم، ثم مع المتوكل نكّل بخصومهم.
هذه الحجج تمتد كذلك في الدول، فالأمويون أبادوا كل تمرد عليهم، لكن يبقى حتى حين! حتى أبادهم العباسيون! وبطبيعة الحال لم يعدم أبناء اللحظة حججًا من قِبل عادة الله أن نحطم من عادانا! هل من تلازم بين الصحة وإبادة المخالف، أو أن يخبوا ذكره، أو سقوطه؟ لا تلازم بينهما!
فالسقوط ونحو ذلك له أسبابه الاجتماعية والنفسية، والسياسية، وغيرها، لا يزيّف ذلك ما قاله المرء، أم إذا سقط من تحبونه قلتم: لا يضيره ألا يعرف في الأرض من عُرف في السماء؟ ومتى انتصر قيل: لو لم يحبه الله ما نصره! وإن كان العدو أكثر قيل: العبرة بالحق نفسه لا أتباعه، والجماعة هي الحق وإن كنت وحدك، حتى إذا كثر الأتباع قيل هؤلاء هم السواد الأعظم والجمع الأكرم محال أن يجمعهم باطل! هل هذه حجج علمية؟ أم خطاب شعبي مجنون؟
في كتاب (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) تعرض فوكو لدلالات كلمة الجنون وما اختلفت به من زمن لآخر، وذكر لهذا وقائع كثيرة ذكر منها أنَّ مسلمًا أحرق حيًا بتهمة الارتداد عن النصرانية، لا يُعرف من هو، ولكن اتهم بالجنون العقدي لإسلامه، يمكن تقدير حجة المنتصرين حينها بأن عادة الله إحراق مخالفيهم وجعلهم رمادًا! وقد ركّعت الكنيسة جاليليو في زمنه، واعتذرت بعد ذلك بقرون.
فلا تلازم بين الصحة والكثرة والقلة في اتباع قول، لا تلازم بين سقوط القائل وبين سقوط قوله، فكما قيل: المذاهب لا تموت بموت أصحابها، لا تلازم بين نفرة اجتماعية عن مقالة أو قبولها وبين صحتها في نفسها.