ارتباك…
أذكر قديمًا حين كنت أتجوّل مع بعض الأصدقاء في المكتبة حينها جاءنا (بروفيسور) في الفقه الإسلامي، وبعد السلام، سألنا ماذا تفعلون؟ تحدثنا عن الكتب، فقال أنصحكم بقراءة (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز) وأصر على أن يكون بتحقيق الألباني، كنت قد قرأته من قبل، فقلت له: ما رأيك بمقدمته للكتاب؟ كلامه في عبد الفتاح أبو غدة مثلًا؟ احمر وجهه كأني أبديت أمرًا يحظر الحديث فيه! قال دع عنك خلاف الأقران من أهل العلم!
قلت: لكن أنت من أحلت إلى الكتاب، وحرصت على أن يكون الألباني محققه، فما قولك في كلامه إذن فيمن لم يعاصرهم؟ أليس هو من قدّم كتاب (التنكيل) للمعلمي! هنا خلت أنه سيخر مغشيًا عليه! وقال بصعوبة وتلعثم وهو-فيما يبدو-يسعى إلى كظم غيظه: دعك من هذا! فلم يصح شيء في الإمام أبي حنيفة! فقلت: ما قولك إذن بكلام المعلمي الذي ما قام رده على الكوثري إلا لأنه رأى في (تأنيب الخطيب) طعنًا بتلك الأسانيد، لم أحرص على طول النقاش، لكنه مجرد نموذج يصل لما يسمى بالأروقة العلمية بين قوسين أو اطمس عليها إن شئت.
يحيلونك إلى كتب، ثم لا يملكون مرونة البحث فيها بصورة جديّة، بل بالنهي والكف اعتباطًا، لا زلت أذكر كذلك حين استعرت من المكتبة كتاب (التأنيب) ومن بعده (التنكيل) فناداني قيّم المكتبة وقال: ما غرضك من هذا؟ قلت: القراءة ما الغريب؟! قال: يا بنيّ دع العلماء يؤنب وينكل بعضهم ببعض، أما أنت فليسلم صدرك للجميع واترك مثل هذا فهو لا يفيد الأمة!
ليس الأمر حكرًا على كلامهم في العام، حتى لا يبقى لمتعلق بموضوع مخاطبة الناس بما يعرفون متمسكًا، بل يشمل كليات وحلقات علمية ومن يسمونهم طلبة علم أو من يصفونهم بالعلم لا يرون البحث في مثل هذا، أو يقفزون لنتائج الصلح الاجتماعي الذي لم يشهده أحد من المختلفين، فأي شيء يبحثون فيه ما لم يتميز عندهم كلام الأقران عن تنافس وتنافر ، والجرح الحقيقي الذي يحتكمون إليه كثيرًا، فما هو الخلاف الحقيقي وأسبابه؟
فضلًا أن كلام القرين في غيره لا يتابعه غالبًا عليه غيره من الأقران، فحينها أي تفسير لمثل ذلك الكلام المتتابع؟ وأسهل خيار أن يقال خلاف لفظي، أو سوء تفاهم فيخيل إليك أن العديد منهم “مشايخ” بالمعنى المماثل لوجهاء القبائل في الصلح الاجتماعي، يعاملون الخلافات التاريخية كساعة شيطان جن فيها الناس، وجاءوا هم وهم عقلاء وقالوا للمختلفين لم يفهم بعضكم بعضًا!
نحن بحاجة حقيقية لبحوث تاريخية لا يوجد فيها أي تشويه أو تزيين تتعرض لمثل هذه الخلافات بموضوعية، بدل الأمر بقراءة تلك الكتب، ثم التنفير عن محتواها! ألا فلتسلكوا مسلك الصلح العشائري! كما أرى ولعًا بالتصريح بالمواقف المتنوعة، وذكر الاحتمالات دون استناد للوقائع التاريخية، وكان في الانكفاء على البحوث في مثل هذه المواضيع مشغلة عن كثرة الجدل المجرد عن الأدلة أو النهي الأعزل طلبًا للوصاية كأن صاحبها حقق شيئًا أصلًا، والأمر أوسع مع خلاف جزئي، بل يمتد إلى عشرات المباحث التي يسعى العديد من (الباحثين) إلى تجاهلها، دون جدّ في فهم الخلاف وظروفه التاريخية، وفي أي سياق يوضع حتى يجري تفسيره وفق نموذج يتسع لاحتواء الوقائع لا وفق نماذج سطحية تتجاهل كثيرًا منها، تغفل البحث فحسب أو تنظر إليه بعين واحدة!