ممالك وسائل التواصل

هناك صفحات بعدد مهول، الناس تتابع فضولًا، مرة يقنع الواحد منهم بما يقرأه، ومرة يخالف، مرة يعجب وأخرى لا يبالي، المسألة عادية، في حين كان هناك أقوام قد حسبوا أنهم أقاموا سلطانهم في هذه الصفحات، يتقمصون أدوارًا منفصلة عن واقعهم الحي، في مملكة يعد فيها متابعيه تابعينَ له، يحرص على التصنّع أمامهم، كيلا يفرَّ أحدٌ منهم إلى دار حرب، ليستقبل الطلبات الجديدة للحصول على جنسية مملكته الافتراضية، أو حتى إقامة دائمة!

تجد فلانًا قد بدأ بسيل من الأدعية في صفحته وتعليقاته وكأنه يخيّل إليه أنَّ أقرب ما يكون لربه وهو متابعٌ لعدّاد نقرات المعجبين، لا بعيدًا حيثُ لا يراه بشر، لتتوزع الممالك إلى حد وجود من يتقمص دور الأمم المتحدة فيشعر بالقلق، وآخر تقمص دور منظمة حقوق الإنسان: فينهمك بتقييم المحتوى السلبي الذي يتلقاه متابعو الصفحة الفلانية، ليقدّم لها النصائح سرًا وجهرًا!

فيها لجان لمتابعة ما يجوز بثه، فيقول أحدهم: لا تنشر هذا على العوام كأنه ليس عاميًا! ولعمري كان هذا في زمن تنسخ فيه الكتب فتوزع المخطوطات لمن تخصّهم بها، كما كان ابن سينا يوصي ألا يقع كتابه إلا بيد ثقة يصونه، أما وقد طبعت الكتب، وتباع مثل الخبز في الأسواق، والتفرقة فيها على أساس من يملك الثمن ومن لا يملكه، فأقل ما يقال: هؤلاء لا يعيشون عصرهم بعقولهم، أشباحهم معنا وعقولهم في زمن المأمون! هذا في العصر الرقمي، وقد سهل على الجميع أن يسمع من الجميع.

الناس يفترض بأنهم متابعون أحرار، لا حاجة لتقمص دور المحترق غضبًا، ولا المبتهل البكّاء، ففي خصوماتك، أحكام مملكتك لا تجاوز ما توصله كابلات الشبكة، فعلامَ يأتي من يقول: وافقني وإلا دعوتُ عليك، ألا فلتدعُ للصباح ولتقدّم قرابينك، يأتيك من يلزمك برأي شيخه، كأن الناس قد ختم في بطاقاتهم أنهم أتباع لمولاه، ألا فلتهنأ بحمل حافلة من أمثاله.

وهناك من يدّعي القدرة على النفاذ إلى البواطن، وأخوه يخشى على آخرتك، وكل هؤلاء لا يعرفون حجمهم: ليس لديك ما تقدمه صديقي، فعلام تفاوض؟ لا تهدد بانسحابك، نفذه بهدوء، وإن علّقت: لا جيش وراءك يسمع خطابك، ولا ترتعد فرائس أحد لزمجرتك، فالمسألة عادية: تابع، وافق وخالف أو لا تبالي: ولا تظنّن الناس رعية لك في مملكتك.