الجمهورية؛ إعادة فهم!
ما حدث من انتفاضات وحراك في المنطقة العربية، كان حِكرًا على المناطق التي سميت باسم الجمهوريات، وقد فشل فيها لأسباب عديدة، وبالرجوع إلى ما يسبق تلك التحركات يمكن ملاحظة أحد أهم الأسباب، وهو القضاء على فكرة الجمهورية نفسها، ما بين الموالاة والمعارضة، لذا كان لا بد من إعادة فهم!
الجمهورية لم تشكل يومًا امتدادًا للنظام الملكي، بل هي بديل له، نقيض لنظام الحكم السُّلالي والملالي، لها منطق آخر في النظر إلى الشعب، على أنهم: مواطنون لا رعية، المواطنة تلك التي تحمل في مضمونها معنى سياسيًا، فما سمى بالمواطن في النظام الملكي مجرد مجاز، إذ هم رعية يتبعون عائلة حاكمة لا شأن لهم بأكثر من طاعتها، والتزام أوامرها، وإلا فالسيف محّاء الخطايا، بخلاف المواطن الذي يرى أنه مساوٍ لأكبر رأس في الدولة في الحقوق والواجبات.
المناطق العربية التي سميت باسم الجمهورية حاكت الجمهورية التي ألغت النظام الملكي، وجاءت نقيضًا له، ليس فيها بيعة، وجرى العمل على اختراع شيء اسمه الدستور، إذ يتم اختيار مواطن للعمل لمصلحة الشعب، وهو مقيد بالدستور والقانون، ويمكن للشعب أن يحاسبه على أخطائه قضائيًا أو بالاختيار ما لم يثبت عليه خرق قانون.
في الواقع العربي كان الذين حكموا باسم الجمهوريات قد ملأهم الحنين لوضع السلالة الحاكمة السابقة، وساهم في ذلك أسباب كثيرة، فجرى التعامل مع رئيس الجمهورية على أنه ملك، بل صرح رئيس جمهورية بأنه ملك ملوك إفريقيا!
هو أهم ما في النشرة، يحضر معنا صلاة العيد، يفتتح مسجدًا، يخاطبنا كالحجّاج، وبدل المكرمة الملكية، هناك رئاسية يمن بها على رعيته الذين سماهم بالإخوة المواطنين، فذا له كرسي للتنقل لوضعه الصحي، وذاك يُعالج بقرار الرئيس! وبعدها: يكون في الصف الأول من كلمته معممون، لإعطاء شرعية دينية لسلطته.
ولا تتبرأ المعارضة من المساهمة في القضاء على فكرة الجمهورية، فهي وإن خاصمت السلطة لكنها تعاملت بآليات ملكية، فأتباعها يبايعون رجلًا، ليس رجلًا عاديًا ليس مواطنًا بل هو إمام، على السمع والطاعة في المنشط والمكره! ويطالبون النظام بزيادة الإيمان في البلاد، حتى وإن تجاوز الدستور فما هو إلا حبر على ورق، حتى يقدر على الوصول إلى مرحلة السيف محّاء الخطايا، وإلا فهم البديل للوصول إلى كل هذا!
وهكذا تم القضاء على فكرة الجمهورية، بين فكي كماشة، لإنشاء هجين اسمه جمهورية لا كالجمهوريات، ولا هي كذلك نظام ملكي صريح كباقي الممالك، شيء غير معقول، يمره الشعب كما جاء! ولم يكن النظام وحده من ساهم في هذا بل ساهم خصومه كذلك في القضاء على الجمهورية في أذهان الشعب، في كل وعظ ودرس، حينها صار المواطن العادي الذي يفترض أنه رئيس يخبرنا عن الله أكثر، ويحلف الأيمان أن الله سيحاسبه، ليفهم الناس أن الله هو وحده من يحاسبني!
هذا كله ممكن في غير منطق الجمهورية، التي تسائله أمام القضاء والشعب، وصار المواطن بدل أن يفكر بطريقة سياسية، يذهب ليشكو إلى قبور الأولياء ظلم المماليك، وبدل أن يمتلك أدوات النقد والمراجعة، صار مثقفوه يبحثون في أحكام أصدرها مفتون في عهد بني العباس، وهكذا تم وأدُ الجمهورية.