في تحديد المشترك السياسي

يمكن تصور دخول شريكين لكل منهما دين مختلف في تجارة لتحقيق مصلحتهما بسهولة اليوم في مجتمعات ينتشر فيها تصور السياسة ما قبل الحديثة، لكن ما أن نصل إلى السياسة حتى يبدو الأمر غامضًا أكثر وعرضة للارتجال، واحدة من أهم المسائل في الفكر السياسي هي تحديد الأرضية التي يَعمل عليها، وما لم يجرِ هذا، سيظل الأمر عرضة للارتجال والأخطاء المتكررة، ما الذي يجمع مجتمعًا مختلف الديانات والطوائف والعرقيات في العصر الحالي؟

مصلحة مشتركة، مصير مشترك، اجتماع في بقعة جغرافية معينة ولهذا استحقاق على جميع تلك الطوائف، وفي مثل حال كهذه فإن الحديث يجري في تحقيق أرضية بين تلك الطوائف والعمل خلالها، بطريقة (لا دينية) بطريقة يتم تقدير الأشخاص فيها (دنيويًا) بما يخدم الجميع.

هذا التجمع البشري يعمل السياسي، بما يحقق أمنه، كرامته، مصالحه مثلما نتحدث عن شريكين من دينين الهدف من اجتماعهما في الشراكة تحقيق الربح لهما، موضوع دنيوي، لغته دنيوية تعمل وفق المشترك فحسب، هذا لا يلغي مباحث أخرى مهمة بالتأكيد لكنها ليست هدف الشركة الاقتصادية ولا السياسية في مثل هذا الظرف.

هناك من أصر على تحويل الأمر إلى غير هذا، إلى جعل المشترك هو الدين، ما الذي يحصل؟ لا تحتاج القضية إلى ذكاء وقتها ليقال: إن مفهوم [الدين] سيختلف من واحد لآخر، وسيجري التعبير عن المصالح حينها بغير لغتها المباشرة، بل خلف جدالات دينية مطوّلة لا ترضي مختلف الأطراف ولا تحتملها الظروف السياسية المبنية على السرعة والمرونة.

حين يقضي شخص لا تختلف عليه الطوائف، من حيث تقديره لعمله لمصلحة الجميع، لم يكن ولا يكون الأمر بحاجة إلى أكثر من تقديره فيما عمل فيه، بالحديث بتلك اللغة الدنيوية، التي جمعت بين الناس حينها، وتحييد النقاشات الدينية في الموضوع، تلك المنطقة التي وصل إليها المسلمون من أيام العصر الأول حين عقد اتفاق مع قريش خلا من تناول الأمر وفق المفهوم الديني حتى قال سهيل بن عمرو “لو شهدتُ أنك رسول الله ما قاتلتك” ليجري التصالح بكتابة الأسماء مجردة، (دون أوصاف دينية لواحد من الطرفين، بلا وصف قريش بالكافرين ولا محمد بن عبد الله بالنبي).

هذه النقطة اللا دينية لا تعجب الكثيرين، وضخت في الساحة أطنان الخطابات منذ عقود لتصوير الأمر على أنه الإلحاد بعينه، وباستحضار التاريخ القديم، فهي عقلية تشبه إلى حد ما تلك التي تناولت الأمر حين سعى طرفان من المسلمين إلى عقد اتفاق فخرج من كفّر عليًا لحذفه “أمير المؤمنين” وقالوا إذا حذف هذا فهو أمير الكافرين! مع أنه لا يُتصور الوصول إلى أرضية مشتركة مع طرف لا يسلم بها دون حذفها، وأرادوا الوصول إلى حسم يتجاوز الواقع وكانت النتيجة أنهم هم الذين أضحوا الطرف الخاسر من جميع الأطراف.

حين تدخل اللغة الدينية في تلك المنطقة المشتركة لن يتحدث جميع الناس وفق تصورك، بل سيكون الأمر عسيرًا على الضبط، وسيخرج من يقول يا لله لقد حرّفوا الدين، فمن سلوك للعوام دينيًا الذين يشملون غالبًا مختلف السياسيين، الذين لا أهلية فيهم لبحث مسائل فقهية، إلى تنازع واضطراب في المنتسبين للفتيا، الذين يُنظر إليهم على أنهم أهل التخصص، إلى ضجيج ضخم حول قضية كان يمكن تجاوزها بنقطة واحدة وهي تحييدها عن الصيغ الدينية، فالتاجر كان يبحث عن الربح لما دخل الشراكة، لا الخلاص الآخروي، ومن عمل وفق المشترك السياسي بحث عن تحقيق أكبر منفعة دنيوية لشعبه، لا عن أسئلة وجودية وأجوبتها في موقع مليء بالضجيج لا يساعد حتى على التأمل!