ملاحظات في التفكير السياسي [14]
إن ربط الفعل بالنتائج له تعلق بتحليل الأخلاقيات التي تلف العمل السياسي، فهناك مثاليون جعلوا الأخلاق منفصلة عن نتائجها كما فعل كانط حين جعل الأخلاق تابعة للاتساق الداخلي، في الفلك العقلي فحسب، دون الأثر والنتائج العملية المربوطة بجلب المصالح ودرء المفاسد، ولذا منع الكذب في كل الحالات، دون حالة استثنائية واحدة حتى ولو كانت لإنقاذ بريء، هذا التصور المثالي للأخلاق جعل العديد من الناس ينظرون إلى الأخلاق والسياسة كضدين لا يمكن أن يجتمعان، وفي هذا الإطار جاءت العبارة الساخرة بأن رجلًا مر على قبر كتب على شاهده تعريفًا يبدأ بالقول: “السياسي الخلوق”، فقال: “لماذا دفنتم رجلين في قبر واحد!”.
إن المباحث الأخلاقية التي تتحرك في إطار الواقعية المرتبطة بمراعاة المصالح والمفاسد، تضمن تأثيرًا أبعد في الواقع، ففي جانب الدعاية كان هتلر وهو أحد مؤسسي فنون الدعاية الحديثة-بقطع النظر عن توجهاته العنصرية وسياساته المنتقده-قد سجل في كتابه (كفاحي) أن الدعاية ضد عدو، يفترض أن تركز على سلبياته، دون ذكر إيجابياته، ولكنها لا تكذب حتى لا يصدم الجنود عند الالتحام بحقيقة الواقع، وبالتالي يصبحون يشكون في صدق كل دعاية للدولة.
على سبيل المثال لو أن الدعاية قالت بأن العدو متوحش، همجي، هذا يكفل شحن الجنود ضده، ولكن لو قال عنه بأنه جبان، فإن هذا قد ينهار عند أول مواجهة يظهر فيها العدو شجاعة وصمودًا، وحينها سيقول الجنود في الخنادق، إن الذين يعدون التقارير الدعائية يكذبون، وإنهم متى كذبوا في هذه التي جربوها بأنفسهم، فما الداعي لأن يصدقوا كلامها في غير ذلك، وبهذا تنهار الثقة بالدعاية، وتنسحب على باقي المؤسسات في الدولة.
وهذا المثال في الأخلاقية الدعائية مهم، فالسكوت ليس كالكذب، والتأثير في الكذب خطير من الناحية الواقعية على الناس، وهذا التفريق كان أساسيًا في الجوانب الفقهية، على سبيل المثال يفرق ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) بين التقية والموالاة، بأن التقية تكون في ترك ما يؤمر به المرء كإنكار المنكر خشية مفسدة أكبر، ولكن الموالاة تكون في فعل المنهي عنه، وهذه لا تجوز إلا في الإكراه على درجات مفصلة في الفقه، فليس الإكراه في المال، كالإكراه على الكفر مثلًا، فالتفريق بين هذه المقامات ضروري وأساسي في تقييم العمل السياسي أخلاقيًا، فمن سكت عن باطل، ليس كمن أقر به، ومن أقر به تحت الإكراه ليس كالذي في السعة، ولمراعاة هذه الأحكام تأثير واقعي كبير في دفع المفاسد وجلب المصالح.
ولما كان الفعل الأخلاقي في مثل هذه الحال مربوطًا بالنتائج المرجوة منه، فإنه لا يعلق على نتائج أخرى مرتبطة بظروف مختلفة، وأزمان مختلفة، كما أن الربط بالمصالح والمفاسد يعكر على تلك الصورة المثالية التي قد تطرح في تسويغ فعل لأسباب مصلحية، وفهم تلك الأسباب المصلحية يمنع من الانبهار الساذج بحجج أخلاقية مجردة في تفسيرها.
على سبيل المثال: سعت العديد من الدول المتحاربة في العصر الحديث إلى عدم قتل الأسرى، وتقديم صورة بأنها تحسن إليهم، وليس هذا لأسباب أخلاقية مثالية، بل لأن في هذا وقود دعاية تساعد على اختراق العدو، وحث جنوده على الاستسلام، لم تتحمل التعب والجراح، وبإمكانك الاستسلام مثل رفاقك؟ وها هم يأكلون ويشربون دون أن ينالهم عقوبة جسدية، فهو من ناحية دعائية يقدّم وسيلة مهمة لاستسلام العناصر المعادية، وما يفيد ذلك في استخباريًا من اعترافات وكشف لأسرار العدو، ثم إنه يفتت صمود الجنود في حين لو علموا بأنهم سيقتلون لو استسلموا، فعلى قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ *** فمن العار أن تموت جبانا
فمن غفل عن هذه المنظومة، قد يطرح حلولًا لا تفيد من الناحية السياسية، ويحسب أنها أخلاقية، ويكون تصوره للعمل السياسي أو الأحكام الأخلاقية، وأو لكليهما مثاليًا، فينبهر بالنماذج المقدمة، ولا يفهم البناء العملي الذي تسير عليه، وأي مصلحة تحققها، ومن فهم هذه الآلية يمكنه كذلك أن يقلبها على خصومه، ويستفيد من امتيازاتها لصالحه، على سبيل المثال: كان تشي جيفارا في أحد المعارك قد صاح بأنه يمنع قتل أي أسير جريح من العدو، فخرج جندي ملقى من مسافة قريبة عليه وسلم نفسه، وقال كنت أظن أنهم سيقتلونني، فقلت أظفر برأسك قبل رأسي، فلما سمعتك تمنع من قتلنا آثرت الاستسلام!
إن العملية المصلحية هذه لا تتوقف على محاولة استسلام العدو، بل تسعى إلى تحويل السجون إلى ثكنات تجنيد مضادة، ويكون التعامل مع الأسرى بآليات مستفادة من دراسات نفسية، واجتماعية، لاستمالتهم لصف سياسي معين، على سبيل المثال فإن السماح للأسير بأن يتلقى تعليمه في جامعة من جامعات الدولة التي تعتقله، يعني إمكانية تحويل رؤيته الإيدلوجية والتاريخية المضادة، لتصبح أقرب إلى عقلية سجّانه، وبالتالي فإنه في السجن يكون محط دراسة وتقييم متواصل للاستفادة من خطوط قد يلمسها بتعبيراته وتصريحاته التي تخضع للمراقبة.