ملاحظات في التفكير السياسي [13]
إن السياسة مبنية على تعدد الخيارات، والطريق الأفضل هو الذي يجلب أكبر قدر ممكن من المصالح، ويدرأ أكبر قدر من المفاسد، لا أن خيارًا قد حدد سلفًا بشكل حتمي، لأهداف عقائدية، وبعدها يقال هو فكر سياسي، فهذا أبعد ما يكون عن التفكير السياسي.
وبما أن هذا هو المنطلق في تحديد الخيارات السياسية، فهو يصلح كذلك في محاكمة الخطوات السياسية، بالنظر إلى التجربة، ونتائجها العملية، ولذا جاء في القرآن: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) [آل عمران: 165]، إن التحاكم إلى التجربة، وتحميل المشاركين فيها مسؤولية النتيجة هي وسيلة علمية لتلافي الأخطاء، ولذا لا يمكن التقدم دون نقد ذاتي يراجع النتائج بالوسائل التي أفضت إليها، ويرى أن الوسيلة تلك أدت إلى كوارث يجب تلافيها لأبعد حد، وهذا هو معنى أن السياسة مبنية على الخيارات، لا على الحتمية التي تحصر الخيارات في خيار واحد لأهداف عقدية.
وهذه الطريقة تمكّن من التعلّم من العدو، فكما قيل: “نصف السياسة يتعلمها المرء من عدوه”، فكم من الآلات التي أدخلت على الجيوش وكان أحدها الأسبق إليها؟ فلو جرى رفض التعلم من العدو، لم يستفد جيش تقنية من آخر، ولا سياسي من آخر، إن الهزائم لجيش هي انتصارات لآخر، وبالتالي فالخطوات الفاشلة تدفع لدراسة الناجحة في الجهة المقابلة، والاستفادة منها، ولذا يوجد دومًا من يعجبون بطرق خصومهم، ويتعلمون منها، بل يكنّون احترامًا عاليًا لعدوهم في ساحة المعركة، متى شاهدوه قد استعمل أفضل الوسائل لمصلحة جيشه، أو دولته.
وفي هذا لا بد من أن تكون الرؤية للواقع سديدة، بحيث لا تهوش عليها الشعارات، أو الانفعالات العاطفية، إذ إن الواقع ليس تابعًا للأفكار الذاتية التي تقوم بالإنسان، وهذا مجال بحثه: نظرية المعرفة، والوجود في الفلسفة، وفي الشق السياسي قد تصدر العديد من الجمل الجاهزة، فارغة من المضمون المعرفي والفكري وتعود على هذه العملية الضرورية في التفكير السياسي بالإبطال، ومثال ذلك: “لا يفتي القاعدون للعاملين”.
فعند تشريح هذه الجملة يكون مضمونها أن الخبير مهما كانت معرفته لا يقدر على نقد من يقوم بالعمل مهما كانت زلته، وهذا يعطل أي مراجعة وأي مساءلة، ويزري بالتفكير السياسي إلى الحضيض، فقد يكون القاعدون هؤلاء هم أهل التخصص العلمي الكبار، ككبار الأساتذة الجامعيين الذين يعرض عليهم خطأ طبي في عملية لم يشاركوا فيها، فهؤلاء في الواقع رأيهم حاكم على العامل، لا العكس.
والواقع أن هذه الجملة الفارغة تعطل عمل القضاء في الأرض، بحجة أن القضاة قاعدون على كراسيهم، والقضايا المرفوعة إليهم على عامل ادعي عليه في عمله، ولا يتوقف هذا عند هذا الحد، بل يشمل المجتمع من الشعب كله، ومؤسساته المتنوعة، وصحافته، فكل هؤلاء قد يهولهم حدث لعامل لهم، وينكرون عليه، وبالتالي تقل الأخطاء ويتم تلافيها، لكن هذه الجملة جاءت في سياق رفع العمل السياسي إلى المصاف العقدي المحصن من أي نقد.
ومن ذلك أيضًا القول بأن “النصر ليس هو النصر المادي فقط، بل النصر هو الثبات على المبدأ”، وهذا لو عمم فإنه يلغي التاريخ الإنساني، فألمانيا النازية على سبيل المثال بقيت ثابتة على مبدئها حتى سقطت برلين، وعانت من التقسيم، ولا يمكن لأي عاقل أن يقول إنهم انتصروا لأنهم ثبتوا على مبدئهم، فهذا وأمثاله مجاله الشعر والنثر الأدبي الذي قد يلهب العواطف، لكنه في الموازنة السياسية، والتأريخ للأخطاء لا مجال له.
ومما يكشف هذه المغالطة وأمثالها، عدم الانحصار في نقاشها في قضية معينة، بل طردها فالشيء يأخذ حكم نظيره، ومتى جرى إخراجه عنه دون سبب كان ذلك علامة على التحكم والهوى في الأحكام، فالمجتمعات الإنسانية تجري عليها السنن الكونية، ويفترض بالقراءة السياسة ألا تجامل أحدًا أو تتحامل على أحد، حتى تبصر الواقع كما هو، بحيث لا تحول البشر فوق بشريتهم، وإلا متى قالت بأن ألمانيا انتصرت لميول نحوها، وكذلك اليابان لتعاطف معها والذي هزم كان بريطانيا والولايات المتحدة، لكان ذلك قلبًا للوقائع والتاريخ.
وهذه الجملة كما هو ظاهر تجعل المبدأ منفصلًا عن الواقع من حيث علله، وشروطه والمصالح والمفاسد، فهي خارجة عن التفكير السياسي السليم، وتلتحق بالتفكير الذاتي الذي يفكر في عالم مغلق، دون أي نفوذ إلى تلمس نتائج الأفعال، فضلًا عن الخط السياسي العام المطلوب تحقيقه من خلال الخطوات العملية، فهي جملة قد تصلح للجنود الذين يعلمون أن دماءهم لو سقطوا ستستثمر بعدهم في دولهم لأهداف سياسية تحقق مصالح البلدان، لكنها لا تصلح للبلدان نفسها متى فكرت بهذه الطريقة.