ملاحظات في التفكير السياسي [12]
ما بين الفعل والنتائج
في تاريخ الفقه كان هناك من الفقهاء من يعلل الأحكام أي يربطها بأسباب موضوعية تدور معها وجودًا وعدمًا، كتعليل الخمر بالإسكار، ومنهم من يقتصر على ظاهر النص، الأولون هم الجمهور، والآخرون هم أهل الظاهر، ثم مع توسع البحوث الكلامية، صار يظهر تناقض أحيانًا في كلام بعض الفقهاء ممن تبنوا مقالات كلامية، كتلك التي ترى نفي التحسين والتقبيح أي إلغاء قدرة العقل على معرفة الحسن والقبيح، في حين أنه كان يقول بتعليل الأحكام وربطها بالمصالح والمفاسد.
والتوسع في بيان مقالة نفي التحسين والتقبيح وتفنيدها لا تتسع له هذه السلسلة، والحق هو ربط الأحكام بعللها ورعايتها للمصالح ودرئها للمفاسد، وأن العقل يقدر على رؤية الحسن والقبيح، وربط هذا بالتفكير السياسي ضروري، ولو تم تجريد العبارات بخصوص الموضوع، لقيل بأن التفكير السياسي يسعى إلى تلمس الأفكار التي تكون أقدر على قراءة الواقع، وكذلك ينظر في البدائل التي لها تأثير في الواقع، فلا يرجح جانبًا بمحض الخيارات المعزولة عن آثارها وهي التي اصطلح عليها في هذا بالقول بأنها مبادئ.
فالسياسة شبيهة بالطب، فكما أن الطب مهمته علاج الأبدان، ومحاربة الأمراض، كذلك الشأن في السياسة، مهمتها علاج البلدان، ومحاربة ما يعوقها عن التقدم، فالطبيب الذي تعوقه المبادئ عن مهمته في شفاء الأبدان ينعكس هذا على فشله في إنقاذ الناس، على سبيل المثال لو أن طبيبًا رفض النظر إلى جسد مريضة لهدف أخلاقي، وكانت في حاجة لأنقاذه ساعتها، لكان خيار تركها تموت خيارًا باطل أخلاقيًا، فإنه يفترض أن يرجح في الحالة من الخيارات ما هو في إطار مهمته بإنقاذ المريض، لا يترجح خيار لمجرد أنه من (مبادئ) الطبيب، كمبادئه الأخلاقية، كما في هذه الحال.
إن الخيارات المتاحة للسياسي عديدة متنوعة، وعليه أن يربط الخيار الذي اختاره ورأى ترجيحه بالأنجح والأفضل في تحقيق مهمته، لا أنه يرجح خيارًا معيّنا لمجرد أنه رآه من مبادئه المعزولة عن التأثير الواقعي، والمحاكمة الواقعية للمصالح والمفاسد، وفي هذا الإطار يأتي خيار الحرب على سبيل المثال.
فقد وجدت بعض الإيدلوجيات التي رأت الحرب ضرورية لتطور المجتمعات، من حيث إنها رأت أن الضعيف سيموت في الحرب، أما الذي يقدر على التكيف وتوجد فيها العناصر المطلوبة للحرب من شجاعة وإقدام ونحو ذلك، فإنه سيبقى، إن هذه الإيدلوجية فرع على الداروينية الاجتماعية، بهذه الصورة تضحي الحرب مكسوة هالة تتجاوز جعلها خيارًا سياسيًا من بين الخيارات الأخرى، وقد يرجحها السياسي متى رأى تعيّن الظروف لها، وانعدام الوصول إلى النتائج المرجوة دونها.
لكن ذلك الذي شحن الحرب بتلك الإيدلوجية قد يرجحها من باب الضرورة العقدية التي أملتها عليه، ومن هنا فإن المساءلة للسياسيين تدور حول صحة خياراتهم، باعتبار الحرب خيارًا من بين الخيارات، إلا أن الإيدلوجي قد يحول الحرب إلى خيارٍ أوحد، لمجرد أهداف يقتنع بها، إنها تتسق مع مبادئه، لا أن العمل السياسي تطلبها في وقت معيّن!
لو جرى تصور هذا في الشأن الطبي، لظهر كارثيًا لأبعد حد، فمتى يمكن ترجيح بتر عضو مثلًا، هذا لا بد أن يكون له شروطه، وأسبابه الموضوعية التي تدفع إلى مثل هذا الخيار، لا مجرد مبادئ طبيب يرى أن ذلك ينصر به نظرية يتبناها، أو معتقدًا يبني عليه خياراته، إن إقامة الخيارات السياسية التي يفترض ألا تكون حتمية بصيغة حتمية يحولها إلى عقائدية جامدة ويفصلها عن نتائجها التي يتلمسها السياسي في اختياره لخيار من الخيارات.
مما يحجب رؤية هذا رغم وضوحه في الطب مثلًا، تلك الصور الأدبية التي بثت مرارًا في الحديث عن الأبطال الذين يموتون وقوفًا، وتضرب بهم القصائد، أو بلغة أخرى عقلية الجندي، والفارس الذي يرى الموت أهون عليه من تلويث شرفه العسكري، وهذا يفيد في إتمامه لمهمته، وصموده بانتظار التعليمات العليا.
إلا أن السياسي لا يمتلك هذه العقلية، ولا يفترض أن يمتلكها، لأنها تودي بالعمل السياسي برمته، فهو الذي يسعى لتتويج جميع الإمكانيات الموجودة في البلد بصورة إنجازات ملموسة، تلعب فيها الأرقام دورًا كبيرًا يزاحم الصور الأدبية التي تصلح للقصائد الحماسية، والرثائية، لكنها لا تصلح للسياسة.