ملاحظات في التفكير السياسي [11]
إن الكلمات التي كانت تقال قديمًا كالسعي لإسقاط النجوم من السماء، أو تلوين الرايات البيض بالأحمر! ونحو ذلك كان لها ظروفها وسياقها، المختلف عن العصر الحديث، واستبدل مكانها كلمات أقل من هذا، كارتفاع التوتر في العلاقات، وأنهم ضيعوا فرصة من السلم العالمي، أو الإقليمي في عبارات حيية تفيد احتمال انفجار حرب في منطقة وهكذا، فمن يفكر سياسيًا لا يقيس مستوى التوتر بين الدول بالابتسام في اللقاءات فليست تلك اللقاءات احتفالًا بزوجين محبين، ولا بصيغ التهديد والوعيد التي قد تكون الأعلى دومًا عند العجز عن تحقيقها! إنما يكون بما يمكن أن تندفع إليه الأمور واقعيًا في حال لم يجر تحقيق المطالب.
أما غير السياسي فمجاله واسع جدًا، والخطابات التي لو قالها سياسي لصنِّفت في إطار من العنصرية، أو العدائية، أو الاندفاع الأهوج، في حين أنه لو قالها أديب في رواية لعله ينال بها جائزة كبرى، وبعض القصائد تلقى استحسان سامعيها، لما فيها من الحماسة والبلاغة، وتذاع بشكل عادي دون أن يكون فيها أي محاذير، ولكن لو اتخذتها دولة سلامًا وطنيًا لبعث ذلك في نفوس السامعين دلالات لا يحبذها السياسيون في البلد، ولجرَّ عليهم حملة من التشويه الذي يظهرهم بصورة العدائيين.
فالسياسة لها في غير مجالها كلمة، فكم من معارضة سياسية، كانت قد تركت تكوين الأحزاب، ولم يسمع لها صوت في المعارضة المصنّفة على أنها معارضة سياسية، وكانت تذيع أفكارها في الرواية مثلًا، أو في الفلسفة، وهي وإن كانت تذيع تلك الأفكار من بعيد إلا أنها كانت تقترب من مطالبها أكثر في هذا مما لو صرّحت وأبانت بصورة ظاهرة جلية.
على سبيل المثال لا يمكن إغفال العامل الذي قامت به الروايات في روسيا القيصرية على فضح الدعاية الرسمية، وإبراز معاناة العامة ممن لا تأبه لهم الجرائد حينها، كان كبار الروائيين حينها يمارسون نشاطًا سياسيًا في داخل عملهم الفني، وقدروا على الوصول إلى الناس بأدوات ليست احترافية في الجانب السياسي، فإذا كانت السياسة فن الممكن، فقد كان هذا الممكن لهم بشكل كبير، وقد صاغوا تصورات كثير من قرّائهم، في العديد من المواقف السياسية، دون أن يقولوا إنهم يمارسون السياسة.
وفي الدولة البروسية، كان العمل الفلسفي لا ينفصل بحال عن المضامين السياسية، ما بين محافظة، ورجعية، وتقدمية، وكانت النقاشات التي تبحث في المواضيع المتنوعة، لها دلالاتها التي توزعت لاحقًا في مواقف سياسية صارخة، لا يمكن إنكارها، بل كان تحليل مقالات هيجل يحمل مضامين الموقف من الدولة البروسية، ما بين مؤيد لها، مناصر متحمس، وما بين معارض إصلاحي، وآخر جذري، كذلك الحال في فرنسا، كان الفلاسفة والأدباء قد أثروا بشكل كبير في صياغة الأفكار وصقلها، ثم ستعبر عنها الثورة الفرنسية، وهكذا، فالتفكير السياسي، لا ينحصر في جوانب تقليدية فحسب.
إن سقف المطالب يحدده الأرضية التي تقف عليها، فليست المطالب استجداء، فالعالم السياسي لا مجال فيه لطلب القرض الحسن، بل إن موازين القوى، والمصالح هي اللغة المفهومة، ومتى كانت الأرضية حقيقية وثابتة فإن المطلب يكون أقرب إلى إمكان التحقق، وبذا تفترق المطالب عن الآمال الكبرى، فالآمال الكبرى مبنية على نظرية، أو موقف، أو معتقد، في حين أن المطالب السياسية أو الخطوات السياسية محكومة بالأرضية التي تقف عليها في الواقع، وهذا يظهر المرونة في التفريق، فكلما اختلفت الموازين والمصالح، قد تتحول الآمال إلى مطالب، أو خطوات، والعكس صحيح.
فلو أن عاملًا مثلًا يعمل في مصنع يعطيه من الأجر ما لا يكفيه، فهو لا يمكنه رفع سقف أجره بمفرده غالبًا، في مصنع يعمل فيه ألف عامل مثله، فهو من آماله أن ترتفع الأجور، لكن ماذا لو أن هذا الأمل توحد فيه الألف؟ سيصبح مطلبًا، وخطوة يمكن تحقيقها، متى رأى صاحب المصنع أنه سيكون أقل الأضرار عليه من تعطيل أرباحه التي يدرها الإنتاج في مصنعه على سبيل المثال.
فهنا يكون مطلب العامل مبنيًا على وزنه على الأرض، وسيحسب الرأسمالي تكلفة إعداد عمّال جدد ليعملوا بنفس الكفاءة، ويحسب خسائره في حال تعطل إنتاجه لشهر مثلًا، ونحو ذلك، فوظيفة العمّال هنا أن يكون مطلبهم متناسبًا مع واقعهم، وهكذا فما كان بالنسبة للعامل الفرد المغمور أملًا، صار بالنسبة للمجموع مطلبًا ممكن التحقيق.
على صعيد السياسة، فالدولة التي تملك الإمكانيات وتعرض مطالبها على أرضية مبنية على ميزان قوى لصالحها، إنها تستبق حسم الأحداث في الواقع، بلغة تعبّر عن مطالب، أما حين تكون موازين القوى لغير صالحها، فحينها تكون تتحدث عن آمال بعيدة، وتكون في سياق إعطاء ذرائع لخصومها بأن يجعلوا من ذلك ذريعة لتحقيق مطالبهم هم في مصالحها.