ملاحظات في التفكير السياسي [10]

إن العديد من الآمال التي عبرت عنها الشعوب بصورة واضحة بدون أي قيود مرحلية أو مكانية ونحو ذلك عن طريق تخصصات غير سياسية، كالتدريس للتاريخ، فلسفة التاريخ، الفقه، العقائد، ونحو ذلك، وامتد الأمر إلى الفن، بصوره المتنوعة من قصائد وأناشيد وغناء، وروايات وسينما والتي أثبتت إلى أي حد يمكنها أن تعبر عن تاريخ قومي وآمال في معروضاتها، إن هذه الجوانب تشكل ترسانة تصقل نفسية شعوب وتحدد هويتها، ما تحب وما تكره، كما أنها يمكنها أن ترسل رسالتها التي لا يقدر السياسي بصراحة أن يقولها متجاوزة الحدود والقيود والأعراف الدبلوماسية.

لقد حرص العديد من السياسيين على الخطاب بآمالهم حتى إنهم كانوا يصرُّون على أن يظهروا بمظهر متماهٍ مع تلك الآمال، مثل لبس بزة عسكرية في لقاء بعثات سياسية مثل كاسترو، أو الظهور بمظهر أبعد ما يكون عن الهيئة المتعارف عليها في الأوساط السياسية، كالساسة السوفييت لمدة طويلة، حتى كسر هذا التقليد جورباتشوف فلبس البدلة التي يلبسها نظراؤه في الدول الأخرى.

إن مفتاح القضية هنا أن السياسي لا يمكنه ان يحمل وظيفة غيره ولا أن يحمل البلد أو الجماعة السياسية ما يمكن تجنبه بخطوات أخرى، إن القاعدة في هذا أن ما يمكن تحقيقه في خطوة، فإنه من العبث تحقيقه بخطوتين، الأمر شبيه بالفنون القتالية، فالخطوتان تعطي الخصم فرصة أكبر للهجوم، وتبدد الوقت، في حين أنه كان ينبغي عليه اختصار الطريق مباشرة.

فبعد أن كان الساسة السوفييت يصرخون بأنهم ضد الإمبريالية، والرأسمالية، وجدوا أنفسهم مع التطور المرعب لأسلحة الدمار الشامل أمام طرح فكرة العيش الآمن بين الشعوب، والحديث عن الاستقرار العالمي، إذ أصبحت تلك الكلمات الأولى التي يطلقونها تهددهم أكثر مما تهدد خصومهم.

إن السياسي في خطابه هو مثل محاضر بزي رسمي يعطي مطالب من يمثلهم ويحاول أن يشرح للعالم ما الذي يريده بشكل يمكن تحقيقه في خطواته التي يسعى إليها، وبالتالي فلا يحمل هيئة أمير الحرب الذي يعيد إلى أذهان العالم صرخات هتلر في خطاباته، وما نال العالم من ذلك من عداوة وتشنج، وهذا يكون في السِّلم كما يكون في الحروب، فمن يدخل حربًا لن يزيد خطابه بعد الحرب إرعابًا للعدو، فإن هو فعل في الحرب فقد كُفي، وإلا فما لم يتحقق بها من رعب، لن يتحقق بالكلمات.

فحين يأتي وقت الكلام، يصبح التهديد والوعيد ليس إلا دعاية ضده بأن تظهره بمظهر العدائي الذي لا يحتمل العالم وجوده فيه، فيستغله خصومه ويذيعونه مرارًا، إنه يخرم القاعدة الأساسية بأن السياسي لا يتحدث فيما هو فرضي، بأنه [لو] قوي سيسحق خصومه، إن هذا الولع في إفشاء النيات سمة القادة الشعبويين، الذين يكسبون شعبيتهم على حساب إلغاء السياسة، وبالتالي يضرّون شعوبهم المنتشية بصرخاتهم.

ولذا يغلب على دهاقنة السياسة الكلام الهادئ، الذي لا يعكس أي عداء للمستمع، ويصعب استغلاله ضد دولة أو فئة بأنها تريد الحرب، يسعى لإظهار أنه متفهم لوجهات النظر، وأنَّ عنده وجهة نظر يسعى إلى تقديمها بناء على مصالح جماعته التي يمثلها، إنه رجل الأخذ والعطاء، ما دام ذلك مرهونًا بمصلحة شعبه، وأمته، إن البعد عن الشكليات الإيدلوجية، والتشنج الذي يعكس صورة عدائية، والخطابة المملة التي تكثر فيها السقطات هي ميزة السياسي الناجح، وكم من مسألة تحتها ألف خط أحمر، يقولها السياسي المتمكن دون أن يحمر له وجه، ولا ترتعد أطرافه، ولا يفرغها في صور أدبية مكانها كتب الرواية، إنما يقولها بصورة هادئة، صالحة للعرض تعبّر عمن يمثلهم، ويصعب استغلالها واقتطاع سياقها.

وذلك أن السياسي ليس رجلًا يعبر عن أفكار مجردة، ليس مناظرًا ولا هو ملقٍ لمحاضرة فكرية، ليس واعظًا ولا هو يطلب من نظيره أن يتفضل متكرمًا محركًا ضميره، وليس هو قائد عسكر يصرخ بجنده، أو في صف العدو، إنما هو رجل يمثل قومًا ومصالحهم، وبالتالي فهو يسعى بصورة واضحة إلى التأكيد على أن تلك المصالح مشروعة، وأنه لا يسعى إلا إلى حل المشاكل المتعلقة بها، حتى ولو لم يقتنع خصمه بهذا.