ملاحظات في التفكير السياسي [9]

إن الخلط بين الخطوات والآمال، ينعكس على محاكمات غريبة، بحيث تجري محاكمة الأنشطة المتنوعة التي تساعد في العلم والمعرفة، وتعزيز الثقافة، وهي تخدم بلا شك الأهداف البعيدة، لكن الخلط يقزّم دورها، فهل سيتحقق الاستقلال بكتاب؟ أو هل سنصبح متقدمين برواية؟ بمثل هذه المحاكمات يجري التنفير عن كل الجهود التي تشكل حجار فسيفساء في لوحة أكبر، على أن هذه المحاكمة كما سبق تقزم الخطوات السياسية التي تسعى إلى تتحقق مطالب قد ثبت إمكانها الواقعي.

كان من أهم الانتقادات التي وجهها فرانس فون هالدر إلى هتلر في كتابه (أمير الحرب)، بأن هتلر اعتمد على آماله التي كان بصخ بها آذان الجموع، في حين لم تكن لهذه الآمال أرضية مادية ترتكز عليها، وبالتالي تخيل قرب النصر في جبهة أحيانًا لمجرد أنه أحب هذا ويرغب به، دون اطلاع منه على ما يخيب تلك الآمال، حتى إنه أحيانًا كان يرفض الاستماع إلى التقارير التي تخالف ميوله وهواه.

هذه الطريقة موجودة في الطفل حين يغمض عينيه ويحسب أنه بذلك مسح وجود ما يخيفه، وحينما يكبر المرء تتعقد الآليّات التي يسلكها مطوّرة عن هذا السلوك، ومن أهمها رفض سماع المقالات المخالفة، والتقارير التي تتحدث بخلاف ما يحب، وبهذا يمتنع عليه تكوين صورة للواقع الذي يفكر فيه سياسيًا، وتحسب خطواته السياسية تتحرك في إطار مطالب، في حين أنها مجرد آمال، إن ما يحدد المطالب هو القراءة الواعية للإحداثيات الواقعية، لا عدالة أمل، أو كونه الأكثر رغبة في النفوس.

وبهذا الإطار يمكن جعل المناقشة للمطالب بصفتها الأصغر في منظومة التصور السياسي، وفق الممكن والظروف، والنتائج والمصالح، أما الآمال فقد ترتبط أكثر بعدالة قضية، ومبادئها العقدية، فلو أن رجلًا قال بأن من آماله أن يتوحّد المسلمون جميعًا، فإن هذا الأمل يساق فيه الأدلة على الولاء بين المؤمنين، وأنهم أولى الناس ببعضهم ونحو ذلك، لكن حين الحديث عن واقعية هذا المبدأ في ظل ظرف معاصر فإنه يدرس إمكانية هذا بناء على الوقائع من اختلاف مستويات التطور بين المناطق، وتقدمها، وعدد سكانها، ومشاكلها الوطنية، وخلافاتها السياسية ونحو ذلك، وتعد الخطوات والمطالب الصائبة مساهمة في تحقيق الآمال، لكن التوقف عند الآمال سيكون مصدرًا لمشاكل أخرى.

فمن الناس من يجعل مطالبه آماله، فلو سمعه مخالف أثار فيه الفزع! إن الأمر يصبح كأحلام اليقظة، فكل الدول والشعوب في العالم لها آمالها التي لا يمكن أن تجعلها في حيز مطالبها، إذ إن مطالبها لها توقيتها وسقفها، وحين تصبح المجاهرة من السياسيين بالآمال فإنها تخدم أطرافًا معادية لهم، على سبيل المثال، لو أن حزبًا يمينيًا متطرفًا يخوّف الناس من المهاجرين، فإن أهم ما يمكنه تسليط الضوء عليه أنهم يريدون السيطرة على أوروبة، وفي خدمة تصويره هذا يقتبس من الكلمات لداعية أو شيخ، صرح بآماله بأنه يرغب في أن يصبح الناس كلهم مسلمين، وهو يقصد بالدعوة والموعظة الحسنة، لكن الأمال كثيرًا ما تصبح دعاية مضادة لرغبة أصحابها متى ما جاهروا بها.

كان ميكافيلي قد طرح في كتابه (المطارحات) ملاحظة سياسية ومفادها أن السياسي لا يتكلم عن (نيته)، فتلك “حماقة وبلادة: إعلان الإنسان عن حقيقة نواياه عندما يطلب شيئًا معينًا …. فعلى الإنسان ألا يعلن حقيقة نواياه، بل أن يعمل على تحقيق ما يرغب به بأي شكل من الأشكال” ، وضرب لذلك مثالًا بقوله بأنه لو أن عدوك معه سيف، فإنك تتحايل عليه لأخذ السيف من يده، فلا يمكنك أن تقول: أعطنيه حتى أقاتلك به! فهذا يمنع الأمر كله، والواقع أنه لو وصل المرء إلى مرحلة أخذ السيف فإنه سينفذ نيته دون أي تصريحات تضره ولا تنفعه، وهكذا فإن الدول تخفي في لغتها الدبلوماسية نواياها قدر طاقتها، أو آمالها البعيدة التي لا يخدم ذكرها إلا أعداءها، وهذا لا يعني أن السياسي ليس له آمال.

وقد كان السياسي في عصور سابقة يلعب دور الفقيه والقائد العسكري في كثير من الأحيان، ولكن هذا العصر يكون تأثير كلام السياسي في الفقه الذي يبحث في مسائل مجردة، بعيدًا تمامًا فالفقيه الذي يمارس التعليم، ليس كالسياسي الذي يتحرك وفق إحداثيات الواقع، على سبيل المثال، لو سئل سياسي: ماذا سيكون موقفكم من دولة شقيقة ويسميها إن اقتحمت حدودكم! سيكون رد السياسي بأن هذا لم يحدث، ولن يجيب على مسائل فرضية تخرج به إلى حد الفظاظة، وقد تضر بعلاقته مع دولة أخرى.

في حين يكون الفقيه، أو المدرس في سعة يتحرك فيها، فلو صوّر المسائل لتلاميذه كيفما أراد فلا عتب عليه، فليس في منصب رسمي بتمثيل مصالح بلده، وهدفه هو تفهيم الطلبة، بخلاف هدف السياسي الذي يتمحور حول تمثيل مصلحة بلاده، وإفهام دول العالم ما الذي يريده من مطالب بشكل واضح، لا تمرين أذهانهم على مسائل دراسية.