ملاحظات في التفكير السياسي [8]
المطالب والأمل
لو أن رجلًا فقيرًا يأمل بأن يصبح ثريًا، وبدأ يتاجر بالأقمشة، وحين جاءه أول مشترٍ وسأله كم يريد فيما يعرضه من بضاعة، فقال: إنه يريد فيها ما يكفيه لسبعين سنة من عمره، بحيث يكتفي عن الضرب في الأرض، لاعتبره الناس مجنونًا، ولنفر عنه الناس، وكسدت تجارته، إذ إنهم يفترضون فيه أن يطلب في تلك السلعة سقفًا محددًا لا يطلب منه آماله الكبرى التي يحدث بها نفسه.
هذا المثل بهذه الصورة مستوعب، فالناس أقرب إلى ممارسة البيع والتجارة منهم إلى المطالب السياسية، أو فهمها، لبعد كثير منهم عن الاحتكاك المباشر بها، إن هذا المثال يبيّن أن أي خطوة سياسية لا يمكن أن تحقق بضربة واحدة وإلى الأبد الآمال العظيمة التي يرنو إليها الناس، إنها ليست عصا سحرية، بل إنهم متى خلطوا بين مطالبهم وآمالهم لن يعودوا متحدثين في السياسة، بل في آمالهم البعيدة.
فكما سبق هناك ظروف وتاريخ يتحرك فيهما التفكير السياسي، والخطوات السياسية محدودة بظرفها، وسياقها، والمطلب يحدده سقف الممكن، ومن هنا قيل بأن السياسة “فنّ الممكن”، نعم يمكن لمجموعة كبيرة من الخطوات السياسية الناجحة أن تحقق أملًا من الآمال الكبرى، كما يمكن لتاجر فقير نسبيًا أن يحقق ثراءًا كبيرًا عبر مراحل عديدة من البيع والشراء.
إن السياسة وظيفتها أن تحقق مصالح المجموع لمجتمع أو أمة، أو فئة، وإن لم يفرِّق من يفكّر فيها بين المصالح المؤقتة الآنية وبين آماله العظيمة سيخيب ظنه بسرعة، بل إنه قد يهمل تحقيق الإنجازات الصغيرة التي تشكل أرضية تلك الكبرى باختزاله الأمر كله في الكبير، وهذا يجر إلى بيان العقلية التي تصاحب التاجر في تجارته في مفهومه للربح والخسارة، فإن من أساسيات النجاح التجاري أن يكون عند التاجر ضابطٌ موضوعيٌ للربح أو الخسارة وإلا صار يكرر أخطاءه كل حين، أو إنه قد يرضى بإنجازات يمكنه أن يحقق أكبر منها، وتضييع الفرص في ميزان التجارة خسارة، وكما أن النظرية العلمية لا بد أن يكون ثمة إمكانية لتفنيدها كذلك فإن التقييمات السياسية لا بد أن تستصحب هذا وإلا تحولت إلى معتقدات جامدة لا تحقق النتائج المصلحية المرجوة من تحرك سياسي أو نظرية سياسية.
فما الذي يمكنه أن يفشل المطلب السياسي، وما الذي يجعل خطوة سياسية معينة فاشلة، أو مضيعة لفرصة، وإلا فلو كان هناك إمكانية لالتماس التسويغ والتأويل في كل ظرف لأمكن جعل الأرض القفر جنة بصورة أدبية، ولأمكن جعل الفشل الهائل نجاحًا منقطع النظر، باعتبارات أخرى، فيقدر من فشل عن بيع بضاعته طيلة شهر، أن يقول: نجحت في تجارتي لأني صبرت على الوقوف وتدرّبت على النداء، ولأن الجميع رآني أبيع وهذه دعاية كبيرة لي، ولأني تعرفت على بعض الذين جاءوا إليّ وساوموني في السلعة، صحيح أنهم لم يشتروا شيئًا لكنني تعرفت على بعض الزبائن وهكذا.
وبهذه الصورة لن يعجز أحد عن التسويغ لكل فشل، رغم أن مطلبه كان واضحًا كما يُفترض حين سعى إلى مقصده وهو بيع السلعة، لا تعلم الصبر، الذي يمكن تعلمه دون ما قام به، إنه يحول خطواته السياسية نفسها إلى تفكير فلسفي تأملي في معضلة الشر في العالم! في حين أنه أحوج ما يكون إلى التفكير بطريقة جزئية في مسألته الجزئية، وقبول تحمله لأخطائه هو في تفكيره وأفعاله.
إن جزءًا مما يلف هذه العقلية هو الخلط بين المطالب وبين الآمال البعيدة، فتلك الآمال قد يكون فيها مبادئ لا تتبع الربح والخسارة، آمال كبرى تشكل فلسفة للمرء في رؤيته للعالم وموازناته الأخلاقية فيه، لكن هذا الأمل الثابت لا يمكنه أن يتحرك على الأرض رأسًا، بل قد ينتظر تحريكه ظروفًا تاريخية لمّا تتهيأ بعد، تحتاج إلى نقطة تقلل الخسائر لأكبر قدر، وتزيد من نسبة تحقيقه، على سبيل المثال كان هناك العديد من الجمهوريات في الاتحاد السوفييتي ترنو إلى الانفصال عنه، ولكنًّ بعضها بادر إلى ذلك في وقت لم يسمح الظرف بهذا فكان مآلها الاجتياح بجنازير الدبابات، وسحب منها ما كانت تتمتع به من امتيازات، بقيت غيرها تمتع بها إلى ساعة انفصالها.