ملاحظات في التفكير السياسي [7]

ومن ذلك اختزال الأداء السياسي لدولة في شخص مثلًا، وإعطائه من ألقاب التمجيد ما لا يقوى المرء على تتبعه وحصره، وفي المقابل، إعطاء آخر صفات الذم، واختزال حركة الدولة فيه، تلك التي تلعب فيها عوامل كثيرة، فتغفل التغيرات التي طرأت على الشعوب، من ثقافة وفكر، ووضع اقتصادي، وعلى الظرف العام للدولة، على الإيديولوجيات التي تنتشر بين الناس ورجال المجتمع، ولظروفها والمصالح التي تكوّن الدعاية وكثيرًا من المسلمات.

إن تلك النظرة التي تختزل التاريخ في مؤامرة توقع أصحابها عادةً في فخ الجبرية، في علاقتها مع باقي العالم، فيسود بينها الاستسلام والخنوع، فما من طريق للتغيير في وجه أولئك الذين تجمعت في أيديهم كل القدرات الخارقة، لرسم مسيرة البشرية، ويقابل هذا التصور العديد من النظريات الفوضوية التي تتحرك في الفلك نفسه، بحيث إنها تجعل الممانعة تابعة لقرارات فردية، ولأنفار يمكنهم التغلب ما تراكم عبر العصور بقراراتهم، بقطع النظر عن الظروف، والحركة العامة للأمم والشعوب.

بل إن هذه النظرة قد تبث أفكار الجبرية الدينية، بحيث تضحي الحجة عندهم: لو أن هؤلاء القوم صدقوا الله لنصرهم، بقطع النظر عن الظروف، حيث إنها تجعل النصر مرهونًا بقرار بعض المكلفين باتباع أوامر شرعية، فإن لم يتحقق لهم نصر قالوا هذا دليل على عدم صدقهم، وليس هذا بصحيح، ففي الخبر بأن النبي يأتي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه أحد، فليس التأثير، والنصر مرهونًا بمعتقدات وأقوال وأفعال واحد أو مجموعة من المكلفين، دون الظروف الكبرى التي يتحركون فيها.

إن إغفال النظر إلى التاريخ يعزز كذلك ما اصطلح عليه بالماضوية، وهي النظرة التي تتجاهل التقدم الذي يحققه البشر بشكل تراكمي من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، فيضحي حنينها إلى الماضي معيقًا لها عن تصور ما الذي تريد أن تفعله في المستقبل، بل تبقى حبيسة لحظة تاريخية، وتعبر كأنها تريد أن ترجع إلى تلك المرحلة حيث كان الحال بنظرها خير من الحال اليوم.

لكن التاريخ لا يعود، فالماضي غير موجود قد انقضى، وتتجاهل في غمرة هذا الحنين المستجدات التي حصلت، على سبيل المثال من أدرك حال الريف قبل دخول الكهرباء، قبل الآلات المستعملة في الزراعة والصناعة، قبل تحول البيوت القديمة إلى بيوت حديثة، وانتقال الريف إلى المدينة بالتدريج، قد يصيبه حنين الماضوية، ويضحي ممجدًا لتلك المرحلة السابقة على كل هذه الضوضاء والمشاكل التي صاحبتها، لكنه لا يفكر عقلانيًا بأن حنينه السابق هذا لا يمكن أن يسحب من البشر إنجاز الكهرباء ولا الصناعة، وبالتالي يبقى حنينه بالعودة أمرًا ذاتيًا بعيدًا عن الواقع بل في أحيان كثيرة معيقًا له عن التغيير الذي يصبو إليه وينشده في المستقبل وفق ظروف ومستجدات الحاضر.