ملاحظات في التفكير السياسي [6]

وهكذا فإن نظرية المؤامرة يمكن تشكيلها كما يحلوا لأصحابها كل حين، يمكنه أن يدخل أن شاهد مخالف لدعواه على أنه جزء من المؤامرة، دون أي أدلة ولا براهين، إن نظرية المؤامرة في عالم السياسة بهذه الصورة الساذجة، مجرد امتداد لعقلية الأساطير التي كانت تسود في مجتمعات تعجز عن التفسيرات العلمية للظواهر التي أمامها فترمي بتفسيرها على خرافات لا أدلة عليها، كاعتقاد أن خسوف القمر سببه ابتلاعه من تنين عظيم، أو أن الشهاب علامة على غضب الآلهة ونحو ذلك.

وبالعودة إلى مسألة البروتوكولات كمجرد مثال لانتشاره، على هذه النظرية، فإن المسائل المنتزعة من هنا وهناك، كنفي ثبوت بروتوكولات حكماء صهيون، لأن القارئ قد اطلع على تفنيد المسيري لها، قد لا تسقط التصور الأكبر الذي بني عليها وأمثالها بأن كل ما يحدث في العالم مؤامرة من بعض العقول التي تجتمع سرًا وتقرر ما الذي سيحدث وتريده في هذا العالم، وبهذا يتشوه التصور ولا يكاد يتأثر بنفي جزئية مثل هذه أو إثباتها.

فتبقى تلك العقلية مسيطرة ليس في السياسة فحسب، بل تمتد إلى قراءة التاريخ، فيضحي على سبيل المثال سبب القتال الداخلي الأول بين الصحابة بسبب يهودي فحسب، ونشأة علم الكلام كذلك بسبب آخر، ونحو ذلك، والجزئيات لا تكاد تنتهي، وما لم يملك القارئ ثقافة تؤهله من الموازنة، من النقد، سيخلط الأمور ببعضها، وقد يندفع إلى الشق المقابل لذلك الذي يسلم البنية الأساسية فيمتد به الأمر إلى نفي كل شيء يتعلق بيهودي في التاريخ، حتى ينفي وقائع بني قريظة، وبني النظير، لأنه نفى بروتوكولات حكماء صهيون! فيقع التطرف ما بين التعالي على الوقائع، إلى جحد الوقائع.

إن التصور السياسي يُفترض بصاحبه أن يتخلص من الأوهام التي يمنحها ثقة بالغة، ويبتعد عن تكرير ما يراه حقائق دامغة وهي في الحقيقة لم تكن وصلته إلا بمجرد دعاية سمعها أو كتاب قرأه، وغالبًا ما تكون الوسيلة التي تنقل إلى الحدث أو الخبر محل ثقته غير المسوغة بأدلة، فكثير من الناس يعطي على سبيل المثال الكتاب حصانة معرفية، فما أن يقول قرأت هذا في كتاب تاريخي، أو سياسي، حتى يفترض بالسامع أن يسلّم له ما يقوله لمجرد أنه قرأه في كتاب، بقطع النظر محتوى الكتاب، وأهلية مؤلفه، فضلًا عن آليات النظر في الكتاب، وسماع وجهات النظر المختلفة في ثبوته، والطريقة المطروحة في نقده.

إن فكرة المؤامرة بوجود مفكرين يتحكمون في العالم، قد تفرّخ كذلك فكرة تختزل الانتصارات بعقول مفردة تجابه ذلك العالم المظلم، وهو ما انتقد على توماس كارلايل، وهو الذي كتب في العبقريات، وقد وقع احتفاء قديم بأحد كتبه في سلسلته تلك وهو (عبقرية محمد) وكان النقد الأساسي عليه، أنه يجعل حركة التاريخ تابعة لعقول أنفار جبارة، فذا قائد ذو عقلية مميزة، إذن ستكون النتيجة فتوحات لأمته، وهذا التصور يخفي جانبًا أساسيًا وهو الظروف التي تنشأ فيها العبقريات، مع استصحاب النقد الديني المعلوم على اختزاله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه عبقرية، فالظروف التاريخية أساسية ولا يمكن اختزال حركة التاريخ بمجرد عقول لا يوجد لها أساس واقعي يسمح لها بالتقدم، فعلى سبيل المثال، لم يكن ممكنًا اختراع الكهرباء، دون أي أساس مهيء لها، من تقدم في مختلف النواحي التي سمحت بها، إلى الاشتراك في الاستثمار فيها، حتى تعم مناطق الأرض ويستفيد منها البشر، فالعبقري الذي يكشف شيئًا ما هو إلا مسمار في حركة التاريخ الكبرى، فلا يمكن نفي أهميته، لكن دون الاختزال بفرد أو مجموعة أفراد.

وهذا يظهر أن عقلية القائد الفرد الوحيد دون الظروف المهيئة، من التاريخ وغيره لن يكون كبير أثر، فالعديد من الناس يلهج: اللهم قائدًا كصلاح الدين، ويتغافل عن كل الظروف التي هيأت بل التي أفرزت صلاح الدين، وتحركاته التي كان منها تحرير المسجد الأقصى، فلا يمكن اختزال حركة التاريخ في فرد، والفرد في عبقريته، ولذا فإن ما كان منتقدًا في أعمال كارلايل، تجاوزه كاتب كبير مثل تولوستوي، إذ لم يختزل في محلمته [الحرب والسلم] فتوحات نابليون بأنه شخص عبقري، بل أظهر الظروف المتوزعة التي قادت لهذا، عن مشاركات الجنود والحشود، عن طبيعة الأهالي، وظرف الدول والناس.

ولذا فإن ظاهرة ألمانيا النازية التي أدخلت العالم في حرب عالمية كبرى، وراح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، لم يكن لها أن تختزل في هتلر، ذلك الذي أسماه تشرتشل في مذكراته بـ [عبقري الشر] فهتلر كان قد فشل في بدايته مرارًا عن الوصول إلى السلطة، وسجن، ولما سلك الطريق الانتخابي، كان قد خسر، لكن تظافرت ظروف كثيرة دفعت الألمان إلى اتباعه، كالخسارة في الحرب العالمية الأولى، والكساد الكبير الذي أصاب العالم، وغير ذلك، فقراءة التاريخ على أنه أفكار مجتمعة تحركها مجموعة أنفار، اختزال له أثر كبير على التحليل السياسي.