ملاحظات في التفكير السياسي [5]
قد تغطى الأفكار السابقة بتعبير عنها بشكل لاحق، فابن القرية على سبيل المثال قد يجعل مما يستهجنه ولم يتعود عليه معيارًا لمعاركه المتنوعة بحجج مختلفة، دينية، وطنية، ثورية وغير ذلك، في حين أنه لم يقدم أدلة وبراهين متسلسلة بعناية تخوله ليخرج بنتائجه تلك، ولعله لا يدري هو نفسه أن ما يطرحه إنما هو مجرد تعبير عن ابن القرية نفسه، بشكل أكبر عن العناوين التي يدعي الحديث فيها، إنه كما قيل يتكلمون باسم المسيح، دون أن يسمعوا صوته!
إن الظرف التاريخي، وطبيعة الخطابات الدعائية، الإيدلوجية التي تذاع في وقت معين، ومكان معين أساسية في فهم عقلية العديد ممن تحركوا في ذلك الإطار على سبيل المثال، تجد أنه لا يزال بعض الكتاب يستعملون كتاب [بروتوكولات حكماء صهيون] كدليل معتمد لهم في قراءاتهم السياسية، على أن هذا الكتاب ظهر للقراء العرب في الحقبة القومية العربية في منتصف القرن العشرين، التي أعادت إنتاج العديد من الخطابات القومية الأوروبية.
كان الكتاب قد قدّم له العقّاد الذي لم يقدر في تقديمه على تقديم أي دليل على ثبوت ذلك الكتاب، وتجاوز ثغرة ثبوته إلى إبهار القراء بمحتواه، بيراعه الذي كان قد اكتسب ثقة واسعة بين القراء، في حين أن الكتاب ظهر أول أمره في روسيا القيصرية التي سعت إلى تأكيد قوميتها، بجعل يهود روسيا فيها كبش فداء في الأزمات الداخلية، مستنهضة الهمم المناصرة للكنيسة، تلك التي كانت خائفة على انهيار مصالحها وتقاليدها في ظل القيصرية، فكتب ذلك الكتاب ضد الدعاية الشيوعية التي كانت تغزوا روسيا القيصرية حينها، حتى أثمر الأمر بثورة 1917، وقيام الاتحاد السوفيتي لاحقًا.
فاستحضار الظرف والتاريخ مهم في كشف تسلل الخطابات إلى نقيضها المعلن بعداوته، فقد صارت هذه البروتوكولات مسلمة في خطاب أظهر عداوته للدعاية القومية العربية، ورغم هذا فإنَّ هؤلاء الخصوم تغافلوا أنهم نشأوا في ظل الدعاية القومية، وأن الكثير من مسلمات القومية العربية التي طرحت كانوا هم بحق خلفها ووارثيها سواء علموا بذلك أم لم يفعلوا، ولذا لا غرابة أن تجد بينهم من يردد بعض الشعارات القومية، أو يعيد تحليلات كانت تقدم للجمهور على أنها تحليلات تعتمد على كتب معتمدة مثل [أحجار على رقعة الشطرنج] لوليم جاي كار، وهو في الواقع لم يخرج عن إطار التسليم بكتاب بروتوكولات حكماء صهيون ونحو ذلك.
إن تلك البروتوكولات كتبت لأوساط فلاحية ساذجة في روسيا، كانت تقاد بعاطفتها الدينية للكنيسة، ثم استثمرت في دعاية أحزاب يمينية أوروبية أخرى، حتى وصلت إلى المنطقة العربية بدعاية القومية، ثم كررها إسلاميون، وهكذا، قد يقول قائل: بأنه تنبه إلى عدم ثبوتها حين قرأ للمسيري في تفنيد ثبوتها، ودومًا دحر أي خرافة جيد، لكن في هذه الحجة كذلك شيء ينبغي التنبه إليه.
وذلك أن العديد من القراء قالوا بأن هذه البروتوكولات غير ثابتة لثقتهم بميول المسيري [الإسلامية]، وهذا قد يكون عنوانًا لشيء أكبر في أثره، وهو أن يبقى القارئ مكابرًا كل الوقائع والأدلة، حتى يأتي كاتب يثق به لآرائه، أو مواقفه أو عقائده فيغير موقفه فحسب لهذا، في حين أنه دون تدخل هذا الكاتب، سيبقى على ما هو عليه، وهذا فيه مشكلة التقليد دون حجة وبينة، وفيه مشكلة في أهلية هذا القارئ للاستفادة من الكتب المختلفة، وبهذا سينحصر في الكتب التي يثق بأسماء كاتبيها، لا بأدلة كاتبيها، وهذا يصنع فئة واسعة من المقلدين، ممن يحسبون أنهم مثقفون وفي الواقع أنهم لا يقرأون بعين النقد والاستفادة حتى مع من يختلفون معهم.
كما أن هذا يمكن أن يظهر بأن نظرة كبرى ساذجة اختزلت العالم بتصوير مجموعة قليلة من العقول تتحكم به، تجمعها عقائدها الدينية، وتدير العالم بشكل خفي، في تجاوز لحقيقة اختلاف الدول فيما بينها، وتعدد الأقطار والآراء والمصالح، والإيدلوجيات، والتطور الصناعي، والمزاحمة المتبادلة، بحيث يتعذر معه واقعًا هذا التصور، مع حقيقة تفيد بأن اليهود الذين كان هتلر يعتقد في ألمانيا النازية بكمال خطورتهم على ألمانيا، وكان يبث دعايته بأنهم يديرون العالم، فإنه في الواقع كان يقودهم إلى المذابح دون كبير مقاومة، وفي كثير من الأحيان بدونها تمامًا، مما شكل أومة تفسيرية على أصحاب الإيدلوجيا القائلة بنظرية المؤامرة، لكنهم لم يكونوا ليعجزوا حتى قال بعضهم بأن هذا الاستسلام كذلك جزء من مؤامرة خفية.