ملاحظات في التفكير السياسي [4]

كان البحث في صيغة السؤال المطروح مهمة للعديد من المفكرين، على سبيل المثال يطرح كارل بوبر صيغة السؤال القائلة: أيهم أفضل لحكم الدولة؟ على أنها بنية أوصلت إلى إجابات أدت إلى حكم شمولي للدولة مهما اختلفت الإجابات، فحتمًا الأفضل للحكم، هم الأعلم والذين يثق بهم الجمهور، مهما اختلفت الصيغ: صالحون، العلماء، المتقون، فلاسفة، المفكرون، ونحو ذلك.

لذا يطرح بوبر صيغة مختلفة للسؤال: من هو الأقل ضررًا في الحكم؟ وهنا تصبح الإجابات مختلفة عن السابق، فقد يسلّم بأن فلانًا ليس من الصالحين، أو ليس صاحب صلاحٍ عالٍ لكنه لو كان في الحكم سيقول لفعله وتأثيره ما هو أقل ضررًا من غيره، وهذه طرحت فكرة توزيع السلطات، لتقييد الصلاحيات، فلو أعطي الفاضل، الأورع، الأعلم، أو الأكثر وطنية، صلاحيات واسعة لتحقيق الأفضلية في الحكم، لقدر على التحكم بعدد أنفاس مواطنيه، ولذا طرح بوبر فكرة تقليل الضرر، بحيث إنه يمكن التخلي عن بعض الصلاح، إلى مراعات جانب أهم هو تجنب المفاسد الكبرى التي يمكن أن يحققها إعطاء الصلاحيات المطلقة، فمن يمنح صلاحيات كبرى لتحقيق بنية تحتية للدولة، قد يمتد به الأمر إلى محاسبة معارضيه في الرأي على أنهم خونة ونحو ذلك.

ليس المطروح هنا مناقشة بوبر في طرحه بقدر التنبه إلى أن صيغة السؤال تحمل فيه مضامين متى جرى تسلميها فإنه يعني تسليم بنية تختلف عن تلك التي يطرحها سؤال آخر، معارض للسؤال الأول، وبهذا تختلف زاوية النظر للأمور السياسية وفق الأسئلة التي يجري تسليمها فيها.

وهذا يجر إلى التنبه إلى فروق كبيرة في المسلمات الذهنية بين المجتمعات، فالمجتمع الفلاحي في عهد الإقطاع على سبيل المثال، يختلف تفكيره ومسلماته عن المجتمع الصناعي الحديث، تختلف اهتماماته، مخاوفه ورغباته، المجتمعات الرعوية تختلف كذلك وهكذا، وهذا أمر ملاحظ في التفكير بين الريف والحضر، بين القرية والمدينة، والحديث هنا عن الواقع الاجتماعي للناس، وما ينعكس على تصوراتهم في الشأن السياسي، كان فويرباخ يؤكد على أن من في الأكواخ يفكرون بشكل يختلف عمن في القصور، وذلك لظرفهم الذي يفرض عليهم مسلماتهم الذهنية، فالحاجة إلى قوت أهل الأكواخ تدفعهم إلى السؤال عن كميات الطعام المخزنة عندهم إلى آخر الشهر، بخلاف من في القصور الذين سيكون تفكيرهم مختلفًا عن هذا قد يهتمون بمعرفة آخر إصدارات للكتب، عن أعلى الجامعات في العالم، وهذا يظهر أن ظرفهم يلقي بظلاله عليهم في اهتماماتهم وأفكارهم.

وقد سبق إلى هذا ابن خلدون حيث تنبه أن ظرف الناس يدفعهم إلى طرق تفكير مختلفة، فالمجتمعات التي في دعة، ليست كالمجتمعات التي تعاني شظف العيش، ومشقة الحياة، فأهل الدعة يخلدون إلى الراحة والكسل، بخلاف المجتمعات التي تعاني شظف العيش حيث تنطلق إلى الغزو وفق ظروف الأزمان المختلفة.

وهذا نفسه ينطبق على ما قاله ابن خلدون نفسه، بحيث إنه لا يلزم أن ينطبق على كل عصر، فالمجتمعات الصناعية المتطورة، تطور من آلاتها التي تمكنها من إبادة مجتمعات كاملة كما حصل في الهنود الحمر، للفرق بين الأدوات، وعدم بقاء عوامل كالشجاعة والقوة العضلية حاسمة في المعارك، على سبيل المثال كانت القوة العضلية مهمة في شد القوس، حيث كان جذبه مهمًا في مدى انطلاق السهام، وهذا يختلف عن الآلات الحديثة التي لم تعد تعتمد على القوة العضلية في المقذوفات العسكرية، بل على الشحنة الموجودة في الذخائر وطريقة تصميمها.

إن استحضار هذه المقدمة مهم حين يشكل المرء تصوراته السياسية، فظرفه الذي يعيش فيه يلفي بظلاله على أفكاره ومسلماته، فمن يعيش في بادية قد لا يتصور تعقيدات المدينة، وهذا ينطبق على الأفكار الرائجة في حقبة زمنية أو تجربة فردية، فمن كان في يوم ما منتميًا إلى إيدلوجيا معينة، يصعب عليه التخلص منها بقرار مجرد، فقد ينتقل إلى غيرها متحركًا بالأدوات المفصلية نفسها، دون أن يعي ذلك من نفسه، ويكون غلف ماضيه بمصلحات حاضره الجديد دون تغيير في التفكير بصورة جذرية.