ملاحظات في التفكير السياسي [3] الظرف والتاريخ

بعد الثورة الفرنسية، غزت مفاهيمها العالم وتغللت فيه، وفي القرن 21 صار الأمر قريب من البديهيات في أذهان العديد من الناس، فهذا المرء يرى أنه حر، فما المانع أن يتكلم، بطبيعة الحال يختلف سقف الحرية السياسية والاجتماعية، من منطقة لأخرى، إن هذا يختلف عن عصور سابقة، لها أنظمتها وتصوراتها ومسلماتها وبديهياتها، فما الذي اختلف؟ إنه الظرف والتاريخ، فلا يعيش المرء منفصلًا في جزيرة نائية، بل في عالم، للفرد منه تاريخ، مرتبط بتاريخ البقعة التي نشأ فيها، والكيان السياسي الذي يمنحه وضعًا قانونيًا فيه، والمجتمع الذي يتفاعل معه، فضلًا عن علاقة كل هذا بالعالم.

إن الظرف التاريخي، هو الذي يجعل احتياجات المرء تختلف من زمن إلى آخر، ففي هذا العصر لا يكاد المرء يتصوّر العيش دون كهرباء مثلًا، وما تفرع عنها، إن حياته مرهونة بها، في حين أن إنسانًا قبل هذا العصر كان يعيش دون أي من هذا، وكان الأمر في بدايته كماليًا، يجمّل الحياة، ثم أضحى من الضروريات التي تتوقف عليه حياة بشر كالأجهزة الطبية، والحاجيات من الأعمال، والأرزاق، والتنقل، ونحو ذلك، وما يعتبر من الحاجات في حق الأفراد، فإنه بالنسبة للدول من ضرورياتها، التي يتوقف عليها وجودها في هذا العصر.

إن الظرف والتاريخ الذي يعيش فيه المرء له تأثير هائل على تصوراته حتى ولو لم يستحضر هذا، هذا التصور مقبول إلى درجة كبيرة بين الناس اليوم، لكنهم يغفلون عن أن هذه المقدمة لها ما بعدها من تأثير الخطابات والسياسيات على التصورات الحالية، فعلى سبيل المثال كان للخطابات القومية التي نشأت في المنطقة العربية تأثير هائل على من جاءوا بعدها، حتى وإن لم يعترفوا بهذا التأثير، بل حتى إن اعتبروا أنفسهم خصومًا له، كذلك يقال الأمر في خطابات الإيدلوجيات الدينية، كذلك في التيارات الوطنية ونحو ذلك.

فالمرء لا يتحرك في فضاء دون غيره، بل يتأثر بمحيطه، ومسلماته، وبديهياته، بأسئلته وقضاياه، مهما كان جوابه فيها، وقد تنبه نيتشه إلى أن من يجيب عن سؤال، فإنه يسلّم بداية بما يفرضه السؤال من مسلمات، فقد يندفع إلى الإجابة دون تنبه إلى السؤال نفس يحمل في طياته مقدمات يفترض تسليمها، وبهذا فإنه يتحرك وفق منطق السؤال، في حين قد يحسب أنه يجيب فحسب، فانتشار سؤال هو متضمن لدعاية ما تحويه مقدماته.

فلو كان السؤال غير مسلّم به لم يعبأ أحدٌ بالإجابة عنه، إنَّ من يسأل هل محمد علي باشا أكبر أم أصغر من إبراهيم باشا، يسلم بداية بوجود محمد علي، كشخصية تاريخية، ويسلم كذلك بإبراهيم باشا، وبهذا يظهر أن السؤال يحمل فيه مسلمة لمن يجيب عنه، مهما كان الجواب، فلو أن شخصًا لا يسلم بوجود واحد منهما، كأن يعتبر محمد علي شخصية خيالية، غير ثابتة تاريخيًا فإنه سيرفض الجواب عن السؤال، ويموت السؤال عنده، وهكذا الأمر في القضايا التي تطرح من المسائل السياسية، إن مجرد طرحها ونقاشها في عصر ما، أو مجتمع ما، يكشف عن المقدمات التي كانت شبه مسلمة في ذلك الزمن أو المجتمع، عن آلية تفكيره، وطريقة طرحه.

على سبيل المثال انهمك العديد من الكتّاب في الحديث عن رأس الدولة من وجهة نظر تصورهم لحكمه الديني هل هو مؤمن أم لا، في بحث مسوغات القيام عليه أو طاعته، فكان العديد من الكتّاب من خصومهم يرد عليهم بأن الأديان طرق للتقرب إلى الله، أو الفزع إلى بعض الأدبيات الصوفية: “أدين بدين الحب” ونحو ذلك، فعلى الجهتين جرى البحث من جهة محددة، ما بين من يرى اشتراط إيمانه، وما بين من يرى أن الدين مهما اختلف فيمكن الاتساع لقبوله ونحو ذا، كان هناك إجابات أخرى كذلك، في هذا الإطار مثل حتى لو لم يكن مؤمنًا فلا يلزم من ذا أن يكون كافرًا، آخر طرح فكرة حتى لو ارتد عن دين فلا حد عليه ما لم يحارب الإسلام، آخر نفى حد الردة رأسًا، آخر قال ما سمي بحد الردة إنما هو تعزير، آخر قال فلنكتف بالقرآن ولندع السنة المروية ومن بين التزاحم في الإجابات المقدمة، كان همُ السؤال الذي قدّم باديًا، لتسليم مضامينه في شرعية الحكم على أساس يتبع الحكم على إيمان رأس السلطة.

وهذا زاحم الأسئلة عن بحث الكفاءة والصلاحيات ونحو ذلك، ومرر أحيانًا كثيرة فكرة اختزال تحرك الدول في شخص رئيسها، لا توجهها الاستراتيجي العام، فتحركوا في إطار تسليم مقدمات السؤال: ما حكم رجل الدولة في الدين، كان على حساب أسئلة أخرى، والتنبه لهذا يكشف أن الإطار النظري قد يكون واحدًا ما بين شعارات مختلفة، [إسلامي، ليبرالي، علماني، اشتراكي] ولذا فقد تطرح الحلول المتماثلة في نتائجها ولكن تختلف صيغ التعبير عنها مع الاحتفاظ بالبنية النظرية بشكل متماثل يحاكي فيه المختلفون بعضهم بعضًا وإن كانت أجوبتهم مختلفة.