ملاحظات في التفكير السياسي [2]
إن التخصصات المعرفية تختلف من حيث تأثيرها المباشر على حياة الناس، وتختلف لذلك نسبة اهتمام الناس بالحديث فيها، فعلى سبيل المثال من يتابعون أخبار الانتخابات الأمريكية أكثر من أولئك المعنيين بدراسة المسألة الهومرية: هل ألف هوميروس الأوديسة أم شاركه فيها غيره من الشعراء! وذلك لأن تأثير نتائج الانتخابات الأمريكية عليهم، أكبر من تلك الدراسة التخصصية في مسألة تاريخية/أدبية.
فالتأثير المباشر للسياسة عليهم، يجعل اهتمامهم بها كبيرًا، كما أن اندفاعهم للحرص على مصالحهم أو ما يرونه من مبادئهم، دفاعهم عن تاريخهم، هويتهم، أمام ما يرون أنه يمسها، أو يضرها، أو يرون أنه سيفعل، يجعلهم يشكلون تصورات عامة وقد تكون ساذجة في المسائل السياسية، حتى لو لم يتكلموا فيها، أو يحترفوها، في حين أنهم لا يفكرون في العديد من المسائل الدقيقة البعيدة عن اهتمامهم والتأثير عليهم، ولو مرة واحدة، فيكتفون فيها بالوقوف في منطقة الحياد اللا معرفي، فلا يضيرهم أن يكون هوميروس مؤلف الأوديسة أو أنه شخصية خيالية، أو أن عددًا من الشعراء تعاقبوا على تأليفها.
إن الحياد، بأنه لا يدري، دون أن يرى إلحاحًا ذهنيًا على جواب معيّن، أو ميولًا نحو طرح معيّن، يضمن ألا تتشوه المعرفة، كما أن غياب الدافع للمشاركة في موضوع لا يمس الناس، يمنع-إلى درجة كبيرة-من ضياع الحقائق بين آلاف المقالات في الموضوع، فتبقى الأصوات التي تستحق الإصغاء مسموعة، والتهويش فيها قليل نسبيًا، وهو ما يكون مفقودًا أكثر في المواضيع السياسية التي تتسارع الناس إلى إبداء آرائها فيها، والنقاش حولها، والدفاع عنها، لارتباط ذلك بالتأثير المباشر عليهم، ويضحي النقاش فيها أحيانًا كثيرة كأنه سوقٌ لا يُعرف فيها من البائع ومن المشتري وما المبيع وهل هي صفقة أم مساومة! فكلهم يعتبر نفسه فهيمًا بالموضوع، يحق له أن يقول كلمته فيه، مدافعًا عن رأيه دون أدنى تردد.
إن خطورة التصورات الساذجة المفتقدة لنصاب الأهلية في عالم السياسة، التي يشكلها كثير من الناس عن مجتمعهم، والعالم، لا ينحصر تأثيرها في الأخطاء المباشرة التي قد تظهر بصورة فجة في الواقع، بل تمتد إلى باقي تصوراتهم في موضوعات أخرى، وما يورثونه من أخطاء في التفكير المنطقي، في التحليل السليم، والنقد، في قراءة التاريخ، وإيدلوجياتهم التي يتبنونها.
إذ تطغى مشاعرهم على عقولهم، ويتحول الميزان إلى ذاتية فجة، كأنه لا يوجد غير القائل في العالم، إلى غير ذلك من النتائج المرتبطة بهم أنفسهم، أي إن تلك التصورات قد يكون تأثيرها كارثيًا على وعي المجتمعات بمكانها في العالم، وما يترتب على ذلك من نتائج لا تقل في كارثيتها في موضوعات بعيدة عن السياسة، وتبقي أجيالًا في تصورات مغلوطة، وجهل مركّب.
جاءت هذه السلسلة للتأكيد على أهمية الاقتراب من النظرة العلمية في التفكير السياسي، إنها لا تعرض المدارس السياسية، فلا تشرح فكرًا سياسيًا معينًا، إنما تتعرض للتفكير السياسي الذي يمارسه الناس كل يوم حين يسمعون خبرًا، أو يجلسون على مقهى، حين يحسبون أن لهم تصورات معينة في الشأن السياسي، حتى ولو كانت عامة، وغامضة لهم أنفسهم، وذلك بالتأكيد على عدد من القواعد والمسائل المهمة في هذا الإطار، وفيها تفنيد عدد من المغالطات المستعملة بصورة متكررة فيه، للمساهمة في الترفّع عن الجهل، حتى لو لم يلج صاحبه مسلك المتخصص.