ملاحظات في التفكير السياسي [1]

في القرون الأخيرة طرأ على العالَم تغير كبير في مختلف المجالات، ومهما أطلق المرء من أحكام تقييمية أخلاقية، إلا أنه يسلّم بأنه قد حُكم واقعًا على الذين لم يواكبوا تلك التغيرات بهزائم في مختلف المجالات، تراوحت ما بين الإبادة والتبعية، وكانت واحدة من المفرزات التي يعيشها العالم اليوم، تلك التشعبات الهائلة في التخصصات الدقيقة، حتى كاد من لم يقضِ عمره فيها، وتسعفه ظروفه لنيل التعليم فيها، أن يكون أميًّا لا يقدر على شيء منها في الرأي الشخصي الذي يحتفظ به بين جنباته فضلًا عن المشاركة المثمرة فيها مع غيره.

إن الواقع نفسه لا يعترف بذلك الفصل الذهني بين الموضوعات، فالواقع متشابك متلازم، فلا تنفصل فيه مثلًا: الجغرافيا عن التاريخ، فجغرافيا منطقة معينة هي على هيئتها الحالية لتاريخها المعيّن، وإن كان الذهن يفصل بينهما لتسهيل الدراسة والتخصص، فيقدر على دراسة جغرافيتها أحيانًا دون تجشم مشقة استحضار تاريخها، أو العكس، وكثيرًا ما يقال: “ضعها في رقبة عالم، واخرج وأنت سالم”، أي أحل المسائل إلى أهل التخصص، وما عليك إن اختلفوا بعدها؟ فهم أدرى بالموضوع ومشكلاته، وما قالوه سيجري على الجميع بعدها، هذا الطرح وإن كان ملجمًا لعامي تجشّم موقع الإفتاء فيما هو من تخصصات دقيقة، إلا أنه لا ينبغي إغفال مشكلات أخرى تنتج عنه.

فقد يخطئ المتخصص وممن يعين على الخطأ واستمراره، والتمادي فيه، جهالة أمي لم تسعفه ثقافته أنْ يفكّر بطريقة أقرب إلى التفكير العلمي، فهو وإن لم يكن عالمًا إلا أنه كذلك لم يحاول أن يستعمل شيئًا من الثقافة العلمية في محاولته لتصور المشكلة والتنبه لوقوع خطأ، فهناك خيط دقيق بين تسوّر جانب التخصص دون أهلية، وبين استعمال ثقافة علمية قد تعين العامي في مجال معين على الترقي عن آلة خضوع تامة للمتخصص في إهاب إنسان.

فتجد مريضًا تشكك في طرح طبيب متخصص، في حالة معيّنة، فتنبه لوجود خطأ، إذ تنبه لعدم التسلسل المنطقي على سبيل المثال في شرح حالة ابنه، أو في التناقض في طريقة العلاج مما أسهم في كشف خطأ طبي، هذا الخطأ فهو وإن حدده متخصص آخر، فمن الذي نقل هذا إلى ذاك المتخصص الآخر؟ لو بقي المريض أو وليه مستسلمًا كالميت بين يدي المغسّل، لما وقع هذا التنبه.

ولذا ترفع القضايا في المحاكم على عدد من المتخصصين ممن غلطوا في مجالهم، حين تنبه هؤلاء العوام إلى وجود ما هو غير صحيح، لا يتفق مع ما حسبوه صوابًا، وسارعوا إلى الاستشارة لمختص آخر، فهم بلغوا بذلك درجة أرقى من الذي سلم مقاليد عقله دومًا إلى المتخصصين في مجال معين، هذه الفئة كان قد تنبه إليها العديد من الناس قديمًا، كخالد بن يزيد الذي قال: “كنت مَعنيًّا بالكتب، وما أنا من العلماء، ولا من الجهّال”، إنه من فئة قد لا يمر عليها الخطأ دون التنبه إليه، وإن كانت عاجزة عن تحقيق المسألة كعالِم متخصص في فنّه، كما أنها ليست من الجهال الذين يقال لهم: أنتم لستم على شيء ودعوا الأمر إلى أهله.

هذه الفئة لا يمكن أن توضع في إطار محترفي تخصص معين، كالفقه أو الفلسفة أو السياسة، فهي قد لا تمارس في يوم شيئًا من عمل تخصصي، لكن وجودها، يرفع من سقف الثقافة العامة، وإن كان بعضهم لن يضحي عالمًا لكن ثقافته تساعد العلم، كأن تدفعه ليزيّن علمًا معينًا لابنه أو بنته، متنبهًا إلى ثغرة أحوج ما يكون لها المجتمع، أو الأمة، فكم من عالم مبرَّز كانت فطنة والديه أساسية في توجيهه إلى تخصص بزَّ فيه أقرانه، وجاء فيه بما لم يأتِ به غيره؟ إن رفع هذا المستوى من الثقافة يضمن خط سير الثقافة من الانحدار، والانحصار بين فئة من المتخصصين لها كل صفات الارستقراطية، كذلك يدفع المتخصصين إلى إتقان عملهم، خشية من انكشاف الأخطاء ممن هم أدنى منهم في المعرفة.